السبت، 14 أغسطس 2021

& قصة ..الدكتورة الراهبة & بقلم الكاتب :

 الدكتورة الراهبة

كتب القصة: عبده داود

 آب 2021 

نجحت هدى في الثانوية العامة العلمية بامتياز، هذا يخولها الانتساب إلى جميع كليات الجامعات الحكومية السورية.

جميع أهل القرية برعاية الكاهن كانوا فخورين فرحين بنجاح أبنة ضيعتهم الباهر...

الوحيدة التي كانت حزينة هي أم هدى، لم تسطع فرحتها أن تخفي تعاستها، لأنها كانت تدرك بان ابنتها لا يمكنها دخول الجامعة بسبب ضيق الحال. كانت تنظر إلى السماء تستجديها، أو ربما تعاتبها، وتقول سكان السماء يفهمون لغة صمتنا، وأكيد العذراء تعرف بأن الفقر يسكن في دارنا، ومن المستحيل أن يتدبر أبو هدى مصاريف ابنتنا الجامعية... 

مكثت هدى في المنزل تساعد أمها في شؤون البيت وفي تعليم أختيها، وأقنعت ذاتها بأن هذا هو قدرها...

 في العيد، جاء أسقف الأبرشية إلى القرية، حتى يعايد أبناء الرعية، ويتعرف على أوضاعهم المعيشية. رحبت عائلة أبو هدى به اشد ترحيب لأنهم يعتبرون زيارة رجال الدين، بركة وتكريس لهم ولبيتهم... 

تفاجأ الاسقف بقصة نجاح هدى بامتياز، وعلم بعجز أهلها المادية على إتمام تعليم ابنتهم... 

قال أبو هدى للأسقف: لو كان الرب، يريد لأبنتي أن تتعلم لمد لها يد العون... 

في الحقيقة، لم يكن أحد يدرك، بان يد العون كانت حاضرة آنذاك، وقد تجلت بالفعل عندما سأل الاسقف هدى لو أتيحت لك الامكانات، ماذا كنت ستدرسين؟

قالت: الطب يستهويني لأنه خدمة إنسانية مقدسة. 

طلب الاسقف صورة وثيقة نجاح هدى، وبعض الوثائق وقال: علينا أن نعمل ما علينا، والرب سيعمل ما عليه...

انتهت الزيارة الرعوية بتلك الكلمات، والعائلة عادت لحياتها الطبيعية ونسوا الأمر...

بعد شهرين، جاء كاهن القرية لزيارة العائلة...وقال ألف مبارك، لقد تم قبول هدى في جامعة روما في كلية الطب...

هدى ستسكن عند راهبات القلبين الأقدسين، معززة مكرمة، وجميع احتياجاتها ومصاريفها على حساب الفاتيكان...

 سافرت هدى إلى إيطاليا، استقبلتها راهبة في مطار روما. تتكلم العربية المكسرة، لكنها تفهم كلامنا جيداً، قالت بأنها تعلمت اللغة العربية في لبنان.

رئيسة الدير وجميع الراهبات استقبلن هدى بحرارة، وقمن بالواجب، وبعدها ارشدت راهبة الضيفة إلى غرفة خصصوها لها، استلقت هدى على السرير والغبطة تملأ قلبها، حتى غلبها النعاس واستسلمت للنوم...

وعيت على أجراس الكنيسة تقرع في الصباح الباكر، جاءت الراهبة التي استقبلتها بالمطار لتدعوها إلى الكنيسة من أجل القداس الصباحي...

بعد الفطور، أخذت الراهبة هدى حتى تعّرفها على أقسام الدير، قالت: هذه هي مدرستنا المشهورة، وطلابنا مشهود لهم بالتفوق دائماً، لا نسمح لطلابنا بالدراسة الكسولة، لا مكان عندنا للمتقاعسين. ثم أرتها بناء رياض الأطفال الذي يحتوي على أجمل الألعاب، كما أرتها الملاعب المغلقة، وقاعات أخرى.

بعد ذلك أخذت الراهبة هدى وسجلتها في معهد تعليم اللغة الإيطالية، وباشرت هدى الدراسة...

هدى ابنة الفلاح الفقير، لم تغادر قريتها يوماً، تعيش الآن في مكان يعتبر من أرقي الأماكن في العالم.

اسعدت الراهبات ضيفتهم السورية  عندما بدأت تنطق بعض الكلمات باللغة الإيطالية...

ذلك المساء رن جرس الهاتف في غرفة هدى، وكانت المفاجأة مذهلة، أبعد من التصور، كان المتكلم كاهن رعية ضيعتها في سورية، ومن بعده تكلم أبوها وتكلمت أمها التي كانت تضحك وتبكي بذات الوقت من الفرح والشوق، وقالت لابنتها: لقد أوصلوا لنا خط الهاتف والأنترنيت اليوم...

ووصلت  فرحة هدى حدود السماء، عندما أهدتها رئيسة الدير، (موبايل) لتتواصل مع أهلها ساعة تشاء.

باشرت هدى الدراسة في كلية الطب، في الحقيقة كانت الدراسة صعبة عليها في السنتين الأولى والثانية بسبب اللغة اللاتينية المعقدة، والكلمات العلمية المركبة، لكن بإصرارها على النجاح تخطت العقبات ونجحت.

 في السنة الثالثة تمكنت هدى من لغتها الإيطالية تماما، وفعلا استرعت انتباه الدكاترة في الجامعة بمقدراتها، ومحاوراتها الواعية والذكية... 

 أنطونيو هو أحد اساتذتها في الكلية، شاب وسيم أعزب في الثلاثين من العمر، أعجبته هدى، فصار يوليها عناية خاصة، تدل على حبه واعجابه...هو كان ينتظر منها إشارة ما، حتى يصارحها بمكنونات قلبه...هي أيضا أعجبت بذاك الدكتور لكنها حجزت قلبها، وسدت نوافذه حتى تنهي دراستها.

أنطونيو صار يكثر من زيارة الراهبات...حتى يوطد علاقته مع هدى. لكنها هي كانت تتهرب من مشاعرها: كانت تقول يجب أن أحقق ذاتي أولاُ. عقلي وقلبي يجب أن أكرسهما لنجاحي...

أدركت الراهبات اعجاب أنطونيو في هدى...لذلك شجعنها   وقلن لها: أنطونيو شاب يعتبر عريس مناسب لك، ثري، ومن أكابر العائلات، كريم ومعروف بإنسانيته وكرم أخلاقه...

هدى كانت تجاوبهن: لم يحن زمن الحب بعد... 

 تابعت دراستها باهتمام وصبر حتى النهاية، وعندما حان موعد تقديم أطروحة تخرجها. جاء أهلها، بدعوة من الراهبات، لحضور حفلة تخرج ابنتهم...

حاولت اللجنة الفاحصة أن تشكك هدى بمعلوماتها حتى تسبر مدى مقدرتها، لكن ثقة هدى بذاتها كانت أقوى من أي تشكيك، وكانت أجوبتها دقيقة وصحيحة، أعجبت أعضاء اللجنة الفاحصة...

أخيراً قال رئيس اللجنة: ألف مبارك لك يا هدى، عفوا دكتورة هدى، إنك تستحقين شهادة الدكتوراه بجدارة، أطروحتك رائعة.

قالت يعود الفضل لأستاذي أنطونيو، وأشارت إليه، وهو أحد أعضاء اللجنة الفاحصة...

جرى تصفيق حاد في القاعة وخاصة الراهبات، بعدها جاء الدكتور انطونيو، هنأ هدى، وهنأ أهلها، وطلب من هدى أن تترجم الذي سيقوله، قال: اسمحوا لي حتى نتمم فرحتنا، أنا أطلب يد هدى ابنتكم لتكون أميرة حياتي، وشريكة عمري...

  قالت هدى: في الحقيقة هذا يسعدني ويشرفني أن أكون شريكة حياتك، أنت شخص رائع، وأنا ابادلك المودة وأحترمك، ولو أردت الزواج، من المحال أن أختار غيرك، أنت حلم كل صبية، ولكنني حسمت أمري، وقررت أن أكون بتول راهبة مع زميلاتي الراهبات، وقد وهبت عمري لخدمة الله. وأكون أبنة القديسة مريم العذراء وخادمتها. وأدركت بأن نيل السماء غاية الإنسان... 

وقفت جميع الراهبات، وجميع الحضور الذين كانوا في المدرج يصفقون بشدة. حضنت رئيسة الدير هدى وقالت أهلا بك معنا... وطالما أهلك في روما سنلبسك الثوب المقدس في الفاتيكان، وتنالين بركة قداسة البابا جان بول الثاني الذي تحبينه....  

اليوم الراهبة الدكتورة هدى تدير إحدى المستشفيات التابعة لراهبات القلبين الأقدسين في روما، وقد عرفت بحكمتها وقراراتها الصائبة...

وقد احضرت أهلها إلى ايطاليا، واختيها تدرسان بذات الجامعة التي درست فيها اختهم الراهبة. 


إلى اللقاء بقصة جديدة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

♕ شعارات وأشعار ♕ بقلم الشاعر : شريف محمود حسن

 شعارات وأشعار شعارات واشعار والقدس ينهار عدوأ لا يعرف عهداودوما خانئا غدار لايعرف سوا الحرب والقصف والدمار واطفالا تقاوم الموت بالامل والاح...