*أُمتِّع عينيَّ من وجهها، وسمعي من حديثها*
بقلم/احمد زايد
كان العرب قديماً مشاعرهم هي الدافع للحب أكثر من غرائزهم، وهذا ما نقله الأصمعي ذات مرة حين سئل عن الحب فأجاب: «أمتِّع عيني من وجهها وسمعي من حديثها وأسترُ منها ما يحرُمُ كشفُهُ إلا عند حله». هذا ما يسمى الحب العذري الحقيقي. فالحبَّ العذري ، هو حبٌّ طاهر نقي لا تُشوِّهه الرغبات المادية، ويسمو بالمُحبِّ فوق الغرائز والشهوات هو حب عفيف ، لأنه حرم المتعة الجسدية ، وهو عاطفة صادقة لأنه يدوم ويستمر ويبقى على الرغم من الحرمان والجوى( شِدَّةُ العِشْقِ وَمَا يُورِثُهُ مِنْ حُزن) والفراق القاتل حب يتسامى فيه صاحبه ، لأنه يحرص على القيم الإنسانية والمثل العليا ولا يقف عند مجرد الحسرة والندم على الحرمان ، من متع الحب العذري وصال الحبيب . فالحب العذري حب جارف قوي عارم فهو حب لا يلتقي فيه الحبيبان مما يجعل صاحبه يقاسي أشد أيام حياته فليله نهار ونهاره عذاب كما عاشها أصحابها . وفي هذا الحب يصدق فيه الإنسان مع حبيبه بان يعطيه الوفاء والعهد الحبّ العُذري يُعرف أيضاً بالغزل العُذري هو فن من فنون الشعر العربي، ويعتبر من الشعر القديم، ويتغنّى من خلالها الشاعر بالمحبوبة، ويُعبّر لها عن عواطفه تجاهها، وخصوصاً عندما تحول الظروف لتفرّق بينهما، مثل الفراق نتيجة لسفر المحبوب، أو إرغامه عن الابتعاد عن محبوبته بسبب العادات والتقاليد، ويبتعد هذا النّوع من الغزل عن وصف المحبوبة وصفاً دقيقاً، ويكتفي بالإشارة إلى مَحاسنها بطريقة مستترة، دون تفصيلها أو وصفها، فيهتمّ بالمشاعر ويضعها في الرُتبة الأولى. وسبب تسمية بالحب العذري نسبة لقبيلة حملت اسم «عذرة»، كانت موجودة في الجاهلية، واشتهر أبناؤها برقة مشاعرهم وكثرة العشاق منهم، والذين تميزوا بالصدق في عواطفهم، حتى أنه قد قيل بأنهم كانوا يموتون حبا. فدافع الحب هو المحرك للمشاعر في حياتهم، ومن خصائص الغزل العذري:- -صدق الشاعر في اللهجة الموجهة إلى الحبيبة والعفة في عموم هذا الشعر- تتميَّز التعابير المستخدمة بالرقة والألفاظ بالعذوبة. -حرارة العواطف المتوهِّجة بسبب الهيام الذي كان يعيشه الشعراء وهم بعيدين عن محبوباتهم. وأيضا عزيزي القارئ يتميَّز الغزل العذري بالأسلوب المباشر- وصف الألم والعذاب الذي كان يعيشُه الشعراء -شدَّة إظهار الحنين والشوق -الاقتصار في الغزل على محبوبة واحدة لا يتجاوزها الشاعر بل يغالي في حبِّها ويستغرقُ فيه. وفي التراث العربي الكثير من قصص العشق والهيام، منها ما انتهى نهاية سعيدة ومنها ما وصل إلى طريق مسدود ومات الحبيب في نهاية الأمر بشكل مأساوي وهناك قصص حب بالتراث العربي أبطالها شعراء ، وعلى الرغم من أن أغلبها ينتهي نهاية محزنة، إلا أنها تعتبر من أجمل ما حمل لنا التاريخ من عبير الأيام الخوالي، المتقد بالدفء والحنين، ويذكرنا كلما مررنا بقصة من قصصه بالجمال والبساطة المغلفة بالحب. وتظل قصص الحب عند العرب وقصائدهم الغزلية، مضرباً للمثل بالحب الصادق منذ قديم الأزل وحتى يومنا هذا، حيث إن الحب لا يعرف زماناً ولا مكاناً. فعلى الرغم من عادات العرب قديماً وحرصهم وفرضهم القيود على النساء، إلا أن قصص حب العرب التي روتها كتب التاريخ تظل من أروع القصص، حيث إن أغلب أبطالها شعراء،وقد اشتهر العديد من شعراء العرب في كتابة الحب (الغزل) العذري، مثل: جميل بن معمر (جميل بثينة )، وقيس بن الملوح (مجنون ليلى)، وعنترة بن شداد (محبوب عبلة)، ولكل منهم قصته الخاصة مع محبوبته، والتي كتب فيها أجمل القصائد، في وصف شدة حبه، وعشقه لها، وحافظت هذه القصائد على شهرتها، وظلت متداولةً بين الناس ومتابعي الشعر العربي حتى وقتنا هذا. فى ختام مقالتي أرى أن الشعر الغزلي العذري على مر الأزمنة حظي بجمهور عظيم، ولقي إقبالاً كبيرًا من قِبَل الشعراء والمستمعين، لعفّته وطهارته وإيقاعه العذب على مسامع الآذان. لذلك، دام هذا النوع من الشعر وحافظ على شعبيّته مع تواتر السنين و العقود، لدرجة أنه ما زال شائعًا ليومنا هذا. حتى أن بعض الشعراء قد تخصصوا في كتابة الشعر الغزلي، لقدر ما يوحي بأحاسيس الشّاعر ويعبّر عنها بطريقةٍ لبقة ومحبّبة لدى القرّاء والجماهير لقد كتب شعراء الغزل العذري قصائد كانت من أرقّ ما كُتِب في الغزل والحب العفيف، فلم يعلم شعراء الغزل العذري الفحش والرذيلة، فقد كان حبهم عفيفًا صادقًا ينبع من قلب المحب العاشق لمحبوبته التي لم يعرف غيرها ومن أشهر قصائد الغزل العذري "مضى زمن والناس يستشفعون بي": لقيس بن الملوح، ونذكر بعض أبياتها:
مضى زمنٌ والناسُ يستشفعون بي
فهل لي إلى ليلى الغداة شفيعُ
يُضَعّفني حبِّيكِ حتى كأنني
من الأهل والمال التليد نزيعُ
إذا ما لحاني العاذلاتُ بحبها
أبت كبدي مما أجنُّ صديع
مدى الدهر أو يندَى الصفا من متونه
ويُشعب من كسر الزجاج صُدوع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق