الجمعة، 7 أبريل 2023

♕ قصة .. بذلة جديدة ♕ بقلم الأديب : د.حسين الرفاعي

 بذلة جديدة 

....

'محمد أفندي السيد' رئيس قسم الأرشيف بوزارة المعارف رجل لم يعرف أو يهتم في حياته سوى بالملفات المتراكمة فوق الأرفف ودفاتر الصادر والوارد ، موظف كفء يعرف جيداً مهام ومتطلبات وظيفته ، انضباطه في مواعيده أدق من ساعة ' بج بن ' فهو أول من يحضر إلى المصلحة وفي أغلب الأحيان يكون هو آخر من يغادرها ، لا يوجد في حياته ما يعكر صفوها ، فلا زوجة ولا أولاد يرهقونه بكثرة طلباتهم ومنواشاتهم ، فهو أعزب ترك قريته الصغيرة بمركز ' قطور ' بمحافظة الغربية واستقر به المآل في شقة صغيرة بحي ' حدائق القبة ' ، تراه وهو متجه إلى عمله صباحاً محتضن الصحيفة اليومية تحت أبطه ممسكاً بكيس صغير به وجبة الإفطار وقد أهدل طربوشه إلى الأمام قليلاً حتى يواري بعضاً من جبهة عريضة زاحفة إلى مقدمة رأسه يبدو منها أصلعا بعض الشيء ، مثال حي للموظف المصري في حقبة الخمسينات التي لم تغير منه الحداثة أي شيء ، عريض المنكبين مفلطح الأنف غليظ الشفاة تميل بشرته إلى السمرة قليلا ، وأكثر ما يميزه هو قصر قامته ، إذا أردت أن تضبط عليه أوقاتك فأفعل ولا حرج ، أما إذا أردت أن تجعل هناك انفراجة في أسعار الزيوت بالسوق ، فما عليك سوى أن تعتصر بذلته البنية ذات الخطوط الرمادية العريضة حتى تحدث ضجة في أسعار الزيوت كأفضل خبير اقتصادي ، تلك البذلة التي رافقته طيلة عشر سنوات هي عمر وظيفته ، رجل حتى الآن لا يعرف كيف يعقد رابطة عنقه رغم كل المحاولات المريرة التي بذلها زملاؤه في العمل معه ، حتى ملوا منه وتركوه يدخل إلى بذلته ورباط عنقه من غير عناء في هندمة ثيابه أو الأعتناء بها ، حتى جاء يوم زلزل استقرار حياته الرتيبة وأخرجه من شرنقته ، حين دلفت إلى مكتبه " صافي " سكرتيرة المدير العام ، يدق كعبها الأرض دقات توجع القلوب ، جميلة رقيقة ، ممشوقة القوام ، ينهدل شعرها الأسود فوق كتفيها كراقص باليه على أنغام خطواتها ، اقتربت من مكتبه بإبتسامة تشق القلوب ، شمس أشرقت عليه من خلف غيوم أيامه المملة ، وردة تفتحت على أرضه القاحلة ، همست بصوت نغم :

__ صباح الخير يا أستاذ " محمد "

تلعثم ارتبك وقف ثم جلس ثم وقف مرة أخرى وبصعوبة بالغة بعد أن ارتشف لعابه :

__ صباح الخير يا آنسة " صافي " تحت أمرك .. أأمريني 

قالت بأنوثة طاغية :

__ ميرسي .. في الحقيقة أنا حبيت أعرف قرارك في أمر رحلة الفيوم اللي عاملاها المصلحة .. ياترى تحب تكون معانا ؟

متلعثما :

__ الفيوم .. !! آه طبعا طبعا .. جميلة الفيوم .. طبعا لازم أكون معاكي.. أقصد معاكم بالتأكيد لازم 

__ خلاص أعمل حسابك بقى وحضر نفسك الرحلة يوم الجمعة القادمة .. أوكي ؟

__ آه طبعاً .. أوكي .. أوكي

ذهبت وتركته غارقا بين أمواج أعجابه بها وبين شواطئ ود كثيراً أن يرسي على إحداها من يوم إن وطئت قدمه المصلحة ، ورآها لأول مرة وهج أضاء أغوار مشاعره ، وتحدى فيها جسارة الفرسان التي تغيب عنه ، فهو لم يجرأ يومٱ على طبع اسمها فوق لسانه ، اليوم حين أطلق العنان للسانه أن ينطق حروف اسمها تملكه شعور بالفخر بأنه الفارس الأول الذي استطاع أن يجذبها إليه حتى مخدعه عفوا مكتبه ، أحس بدفئها بنعومة أناملها البضة ، وسيكون الفارس الذي يأخذها فوق جواده ليتريضا معا بين المروج الخضر وانسياب شلالات المياه بوادي الريان ، وربما سيطي. بها في رحلة سفاري إلى وادي الحيتان ، أخيرا سيتحقق حلمه وتكون بين أجنحته ، يبثها عشقه وهيامه بها .

انتبه قليلا حين أدرك أن تلك الرحلة قسرا ستكلفه ماليٱ مالا يطيق وربما تثقل ميزانيته التي اعتاد عليها ، هز منكبيه في لا مبالاة محدثاً نفسه ، لا بأس فالهدف يستحق ، فهو في أمس الحاجة إلى اقتناء بذلة جديدة توقع في نفسه بعض الثقة بالنفس إذا أراد أن يتقرب إليها ويبثها بعض كلمات الغزل ، حزم أمره في اقتناء أشيك بذلة تجعله أنيقٱ أمامها وأمام زملاؤه المتحذلقين ، ولا مانع أيضٱ من قميص جديد ورابطة عنق بديلا لحبل الغسيل الذي يزين رقبته .. أنتظر حتى موعد الإنضراف من العمل وحزم أمره أن لا يترك شوارع وسط البلد حتى يحصل على ضآلته .. أخذ يتفحص فاترينات المحلات الواحدة تلو الأخرى ومن شارع إلى شارع حتى أنه ربما كرر المرور بشوارع القاهرة مرات عديدة ، عشرات بل المئات من المحلات عارضة الموديلات المختلفة والألوان المختلفة ولم يستقر على إحداها بعد .. كلت قدماه وبلغ منه العناء مبلغه وبدأ يتسرب إليه اليأس في الحصول على مبتغاه ، ليس لأنه لم يجد مايروف له ، ولكن لعدم ثقته بنفسه في اختيار المناسب له ، وبدأ يفكر جديٱ في العودة إلى منزله خالي الوفاض ، حتى لمح رجلين يتفحصان إحدى الفاترينات العارضة ، فأخذ يدنو منهما حثيثٱ لينصت إليهما فيما يتباحثان .. كانا الرجلان على قدر كبير من هندمة الثياب وأفخرها ثمنٱ ، وكان أحدهما أكثر وسامة وأناقة من الآخر حتى بدى كأحد نجوم السينما ، الشعر الناعم المهذب والعيون الزرقاء ، تلصص جيدا إلى حديثهما وهما يتفحصان الموديلات والألوان المختلفة ، حتى استقر نجم السينما على الذلة الكتان الأوف وايت ، وياسلام لو على قميص روز حرير ، أثنى صاحبه على اختياره خير ثناء ، ثم ذهبا ليستكملا رحلتهما بين المحلات ، في حين وقف " محمد أفندي " يلملم شتات أفكاره .. هل يستقر على ما أعجب به ذلك الرجل المنمق ، وهل سيبدو في حلته الجديدة في شياكة وأناقة هذا الرجل .. ولما لا فقد كانت جدته تردد دائما قولها " لبس البوصة تبقى عروسة " .. حزم أمره ودلف إلى المحل وابتاع مبتغاه واجزل العطاء للعامل وخرج من المحل محتضنٱ بذلته الجديدة تغمره سعادة الأطفال بثياب العيد الجديدة.. انسته فرحته إرهاق وتعب اليوم بأكمله ، بدأت الشمس تميل إلى المغيب وعليه أن يغذي السير حتى ميدان رمسيس ليستقل الترام إلى منزله ، كلت قدماه من كثرة السير بشوارع القاهرة ، وكلت يداه التي تحمل حلمه بين أحضانه حتى استقر على أول مقعد بأول عربة بالترام ، مستلقيٱ ناثرا جسده المتعب وإلى جواره استقرت شنطة الأحلام .. غفا إرهاقٱ تدغدغ حواسه سعادة لم يبلغها من قبل ، سينعم اليوم بليلة تملؤها نسمات طرية ترسلها النجوم الفرحة تضامنٱ معه .

رن المنبه معلنٱ عن الساعة السادسة صباحاً في ثوبها الأبيض الحريري الملمس ، لم يعتاد منه على تلك النغمات الرقيقة المبهجة ، وكأن من يعزفها المايسترو " سليم سحاب " ، فكم من الأيام أزعجه رنينه وكم توسل إليه صمتٱ ودون جدوى ، كالزوجة اللحوحة الزنانة ، ممل ، رخم ، حتى أنه يوماً أطبق عليه بكفه وألقى به بكل قسوة مرتطمٱ بالأرض ، ربما يصاب بإرتجاج في المخ يجعله يلوذ بالصمت ولو لفترة وجيزة ، أما اليوم أحسه أمٱ حانية تربت عليه برفق وتتحسس وجهه بحنان وتدلك له فروة رأسه بأناملها حتى يستفيق من نومه ، صباحاً ناعمٱ مفعمٱ بالحيوية والنشاط والرشاقة مثل ذلك العصفور الذي أخذ يقفز قفزاته الصغيرة على عتبة شباكه وهو يغرد بأجمل الألحان ، ربما كان يستفزه ذلك العصفور المزعج بصوته حين كان يريد أن ينعم بالنوم والاسترخاء يوم راحته من العمل ، حتى أنه يوماً القاه بطقطوقة سجائره حتى يعدو بعيدا عنه ، عليه اليوم أن يقدم له أسفه واعتذاره عن سوء معاملته له ، وللمنبه أيضا ، لقد تحملا منه الكثير من تعنت وفظاظة معهما طوال السنوات الماضية ، تسللت الشمس إلى غرفته ببطء شديد وعلى استحياء خوفاً من أن ينهرها كعادته ويزج في وجهها الشيش تاركاً إياها وحيدة خلف شباكه ، ولكنه اليوم نهض من سريره فاردٱ ذراعيه محتضنٱ أشعتها البيضاء كمن يريد أن يكفر عما بدر منه تجاهها سلفا ، ابتسم لها بوجه بشوش لم تعهده فيه من قبل ، تشجعت وألقت بكل أشعتها وسط الغرفة فرحة راقصة على أنغام المنبه وغناء العصفور الصغير ، وهو هائم في حلمه الوردي .. فتح ضلفة دولابه وأخرج منه بذلته الجديدة ، احتضنها لف بها دورة كاملة حول نفسه ، ثم وضعها برفق على حافة السرير واتجه إلى الحمام ومع كل خطوة يخطوها إلى الأمام ينظر خلفه شوقاً إليها كمن لا يطاوعه قلبه على فراق محبوبته ولو للحظة واحدة ، سريعاً أنهى حمامه والتقفها مرتديا إياها ، وأمام المرآة وقف كثرٱ يمشط شعره المجعد حتى استقر مكانه ، وأغرق نفسه بزجاجة العطر التي أثقلت عليه النفقات ، نظر إليه المنبه معاتبٱ تأخره فقد جاوزت الساعة السابعة بخمس دقائق وعليه أن يسرع ليلحق بحافلة الرحلة التي ستتحرك في تمام السابعة والنصف ، والطريق يستغرق نصف ساعة أو أكثر ، أسرع في خطوه نحو الباب مودعٱ أصدقائه الثلاثة تاركا لهم الغرفة ليستمروا في حفلهم الصباحي على أمل اللقاء مرة أخرى في صباح الغد .. لم يدرك كيف وصل فجأة إلى ميدان التحرير ، لم يشعر بالطريق ، نظر إلى ساعته لم لم تصل بعد إلى السابعة والنصف ، ولكن لا يوجد أحد بالميدان ، لقد أفرغ الميدان من سكانه وعرباته ، لا يوجد أنس وربما لا يوجد جان ، وقف وحيداً مشدوها ، أين الناس ..؟ أين السيارات .. ؟ هل هاجروا جميعاً ..؟ أم أن ميدان التحرير أصبح منطقة موبوئة بفيروس ما جعل كل الناس لا تقرب منه ، انطلق يمينا يبحث عن أحد ، عاود الإنطلاق يساراً فشرقٱ وغرباً ، لا يوجد أحد ، أحس كمن ألقته طائرة مجهولة في صحراء قاحلة لا زرع بها ولا ماء ، بدأ صدره يضيق وتتقاطع أنفاسه ويتصبب منه العرق أنهارٱ ، جلس على الرصيف ورأسه بين كفيه ، صمت الميدان المطبق جعل صراخ الأفكار برأسه يصل إلى عنان السماء ، انتفض عندما لمح سيارة تأتي نحوه .. قفز من جلسته واتسعت حدقتاه ربما تكون تلك هي حافلة الرحلة ، عدا نحوها مسرعا ، توقفت الحافلة تجاهه ، لا يوجد بها أحد ، أخرج السائق رأسه من شباك الحافلة مناديٱ إياه :

__ حدائق القبة يابيه ..؟

لم يجبه فقط نظر إليه في بلاهه ، كرر السائق سؤاله 

__ يابيه .. حدائق القبة ؟

كمن فقد النطق لم يعيره جوابا ، مد السائق يده من السيارة يهز كتفه 

__ يابيه.. يا أستاذ .. حدائق القبة يا أستاذ 

تنبه وجد نفسه مازال بالترام يهزه " الكمسري" 

__ حدائق القبة يا بيه .. مش نازل .. الترام سيتحرك 

جاوبه مسرعاً

__ آه .. شكراً .. أنا نازل هنا 

ترجل مسرعاً من الترام قبل تحركه ، وقف على رصيف المحطة قليلا يستعيد ما رآه في غفوته وهو بالبذلة الجديدة ، وفجأة صرخ بأعلى صوته وهو يعدو خلف الترام مناديٱ :

__ انتظر .. انتظر .. البدلة .. انتظر

ذهب الترام ولم يجبه .. وقف يلتقف أنفاسه وهو ينظر إلى مؤخرة الترام تبعد شيئاً فشيئٱ حتى تلاشت تمامٱ ، ترامى إلى أذنيه صوت حليم ( راح .. راح .. راح ) توعد بالويل كل الويل لأصدقائه الثلاثة 

المنبه ... العصفور ... الشمس 

........

تمت 

       المهاجر 

 د.حسين الرفاعي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

♕ شعارات وأشعار ♕ بقلم الشاعر : شريف محمود حسن

 شعارات وأشعار شعارات واشعار والقدس ينهار عدوأ لا يعرف عهداودوما خانئا غدار لايعرف سوا الحرب والقصف والدمار واطفالا تقاوم الموت بالامل والاح...