... بائعة الثياب ...
أمام محل الثياب ترجلت السيدة برفقة زوجها من سيارتهما الفخمة، ودخلت لشراء ثياب لطفلتها التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات.
أخذت تطوف بين الثياب وتهمس بكلمات غير مفهومة يرافقها عقدة في الجبين، لم تترك زاوية في محل الثياب الا وبعثرت ما فيه...
وهنا بادرتها البائعة بالسؤال، هل أساعدك سيدتي، إسمي ياسمين وأعمل هنا بائعة، لتجيبها السيدة بكل فظاظة وتعجرف، لا .. ولا تتبعيني كظلي، فترد البائعة المسكينة : أعتذر سيدتي، أردت فقط مساعدتك، وأهلا بك هذا محلك ونحن بخدمتك.
وعلى الجانب الآخر سيدة تنظر وتراقب ما يحدث بانزعاج كبير من تلك السيدة المتكبرة...
وبعد وقت قليل، همت السيدة بمغادرة المحل دون شراء أي قطعة، فبادرتها ياسمين بسؤال تصحبه ابتسامة بريئة: ألم يعجبك شيء سيدتي؟؟؟ وهنا نظرت السيدة باحتقار للبائعة وصرخت بوجهها، لا لم يعجبني شيء، ولا يوجد لديكم اي قطعة جميلة، وخرجت مختالة بنفسها أن زرعت غصة في قلب البائعة، وأهانتها وجعلت الدمعة تتحجر في عينيها.
ذهبت البائعة ووقفت على باب المحل وهي تبتلع غصة الاهانة، وتجاهد عبراتها من أن تمطر على خديها، فهي مطالبة بالابتسامة بوجه الزبائن حتى لو كان في قلبها جرح ينزف....
وأثناء ذلك خرجت تلك السيدة التي كانت تراقب ما يحدث برفقة طفلتها، فبادرتها ياسمين بالسؤال: سيدتي ألم يعجبك شيء، لتجيبها السيدة بلطف وتواضع، بلى عزيزتي، فإن كل قطعة أجمل من الأخرى، لكني لم أجد مقاس ابنتي، وسأعود بعد أيام علني أجد المقاس المناسب، أنت بائعة لطيفة وسررت بك، ثم ربتت على كتفها بابتسامة عريضة وغادرت...
وكأن هذه الكلمات أتت على قلب البائعة المسكينة كالماء البارد على الظمآن في يوم حار، وعادت ياسمين لتساعد الزبائن ووجهها يكسوه الأمل والابتسامة.
وتمر الأيام والسنين، واذ بسيدة تدخل الى محل لبيع الثياب، وتطلب من الموظفات مقابلة صاحبة العمل، وبالفعل أخبرت احدى الموظفات صاحبة العمل بأن هناك سيدة في الطابق السفلي تريد رؤيتها، فنزلت صاحبة العمل لترى وجها لم تكن لتنساه يوما مهما رسمت الايام والسنين خطوط العمر عليه، فعرفتها من اللحظة الاولى، واستيقظت معها ذكرى مؤلمة، انها تلك السيدة التي أهانتها يوما ما، ولكنها اليوم تبدو مكسورة وقد اكل الهم من ملامحها كثيرا، وطبعا السيدة لم تعرف ان صاحبة العمل هي تلك البائعة التي أهانتها يوما، فهي بالتأكيد قد جرحت الكثيرات، وكبرها كان يمنعها من النظر لوجه اي موظفة مسكينة، وأردفت صاحبة العمل قائلة: أهلا بك سيدتي ، معك ياسمين صاحبة هذا المحل ، بماذا أخدمك؟؟؟
قالت السيدة: إسمي سلمى وأفتش عن عمل، فأنا مطلقة ولدي ثلاث بنات، وقد جار الزمان علي بعد الغنا فقرا، وبعد العز ذلا، وأريد العمل حتى أطعم بناتي، وهنا لم تتردد ياسمين في مساعدتها واعطائها فرصة للعمل، وبالفعل بدأت سلمى تعمل وكانت تلقى كل الاحترام من صاحبة العمل وزميلاتها البائعات، وتعلمت معنى التكافل والتكامل والتعامل بمحبة من خلال معاملة صاحبة العمل مع موظفاتها...
فكم هي غريبة عجلة الزمن، تتغير وتتبدل، وتدور الدوائر ولا يبقى أحد على حاله، ولكن هناك ديون تبقى معلقة برقبة أصحابها، وكما تدين تدان أحيانا...
فقد أتى يوم، وتعرضت سلمى التي أصبحت بائعة للإهانة من احدى السيدات والتي تعتبر زبونة دائمة للمحل، شعرت بخنجر في صدرها، فكم أهانت قبل ذلك من موظفات، وجعلت من لسانها سكينا يذبح من أمامها دون رحمة...
هنا أسرعت ياسمين صاحبة العمل، وطردت الزبونة قائلة لها: سيدتي لا أقبل بإهانة أي واحدة من موظفاتي، واعلمي أننا جميعا ولدنا من تراب وسنعود الى التراب، فلم التكبر؟؟ وهذا المكان لا يتسع لأصحاب القلوب المريضة، فعذرا منك زيارتك لا تسرنا...
وأمام هذا الموقف أجهشت سلمى بالبكاء، وأخذت تشكر صاحبة العمل على موقفها النبيل، وأخبرتها كم أهانت بالماضي من بائعات، وأن ما حدث اليوم هو سداد دين لتشرب من الكأس الذي أذاقته لغيرها...
ابتسمت صاحبة العمل وقالت لها: لا عليك، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون- كما قال رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام- وأريد اليوم أن أخبرك أنني ياسمين تلك البائعة التي قمتي بإهانتها منذ سبعة سنوات، وكنت وقتها أعمل في المحل المجاور، ثم فتح الله علي واستأجرت محلا صغيرا، وبدأ الرزق يزداد، فانتقلت لمكان أوسع وأكبر، وبدأت أحتاج لموظفات لمساعدتي، وكل موظفة هنا هي أخت لي ومسؤولة مني وأنت واحدة منهن وعفا الله عما سلف.
جمدت الصدمة الكلام على لسان سلمى، لكن انكسارها ودموعها نطقوا بما عجز عنه اللسان...
وهنا نادت ياسمين موظفاتها قائلة: هيا يا أخواتي فقد حان وقت الغداء، وبعدها تعود كل واحدة للقسم المسؤولة عنه، وابتسمت في وجه سلمى وربتت على كتفها، وقالت: هيا اغسلي وجهك وتعالي لمشاركتنا الطعام وأهلا بك أختا بيننا.
بقلمي/ بيسان مرعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق