.. أم محفوظ بهلول البربري .. رواية / رضا الحسيني ( 14 )
وكذلك في عامه العاشر كانت المدرسة تتهم محفوظ بأنه مشترك مع بعض التلاميذ في كسر شباك الفصل الزجاجي ، ولكن محفوظ أنكر التهمة وقال أن عنده من يشهد بذلك وأنه يعرف من كسر الزجاج ، فأرسلته المديرة مع زميل له لإخبار أهل التلميذ المتسبب بالأمر وإحضار أحدهم ، وكان بيت زميلهم هذا بمنطقة عرب المعادي ، وبمجرد وصول محفوظ وزميله لهناك إذا بطائرة إسرائلية من نوع الفانتوم في سماء المنطقة تهاجم موقعا عسكريا وتمكنت المدفعية من إسقاط الطائرة ، كانت هذه أول مرة يشاهد فيها طائرة تحترق في السماء والطيار يقفز منها بالبراشوت ، والطائرة الفانتوم كانت عملاقة وسريعة وتطير منخفضة جدا كل لحظة بسماء مصر من بعد النكسة ،وكم دمرت وقتلت هذه الطائرة الكريهة في كل ربوع مصر ، يومها عاش محفوظ الكثير من الرعب والكثير من الفرحة ، وعندما عاد مع زميله للمدرسة فرحت المديرة كثيرا لأنهما بخير ولم يصبهما مكروه ، وقررت العفو عن الجميع
وفي عامه العاشر هذا أيضا قررت المدرسة القيام برحلة لمنطقة الأهرامات ، ولم يسبق لمحفوظ أن رأى الأهرامات عن قرب ، كان فقط يلمحها عن بعد من خلال نوافذ المترو أو على سطح بيتهم ، ولم يستطع إقناع والده بأن يعطيه قرشين ليذهب مع المدرسة ، ولكن عزيزة لم تستطع أن تحتمل رؤية الحزن يملأ روح وقلب ابنها الغالي محفوظ ، أعطته القرشين ، يومها فرح محفوظ فرحا ليس له مقدار ولا يستطيع وصفه ، وكانت المفاجأة السارة بالرحلة أن مروا بمتحف محمد علي بمنطقة المنيل لمدة ساعة تقريبا ، فانبهر يومها لما شاهده بالمتحف الساحر وكانه عاش لساعة في هذا الزمن المليء بالاحداث والحكايات من تاريخ مصر وبالذات القاهرة
وكأن عام محفوظ العاشر لايريد أن يرحل بسهولة ، ففيه كانت أستاذة العلوم نور تُجري للفصل اختبارا شهريا كالعادة ، كتبت لهم الاختبار على السبورة ووقفت في بلكونة الفصل الخشبية المتسعة تنظر للأشجار بثمارها وعصافيرها في هذا الصباح الخريفي البديع تتابعهم من بعيد ، وكانت تعرف أنهم جميعا لايفكرون أبدا في الغش ، فكل منهم يحافظ على كرامته وشخصيته بين بقية الزملاء ولايريد أن يظهر أمام أحد بأنه لم يذاكر وأنه يعتمد على مجهود غيره أو أن يسرق شيئا من ورقة أحدهم ،وأثناء الاختبار مرت طائرة فانتوم إسرائيلية منخفضة جدا من فوق المدرسة فارتعب التلاميذ كثيرا ، وانتهت الحصة دون أن تدخل الأستاذة نور لتجمع من الفصل أوراق إجاباتهم ، وساد القلق الجميع فنهض التلميذ خالد رئيس الفصل ليخبرها بانتهاء الحصة وأن الفسحة قد حانت ، وعندما دخل بلكونة الفصل وجد الأستاذة نور مُلقاة على الأرض مغشيا عليها ، صرخ خالد مفزوعا معتقدا أنها ماتت ، وبعدما حضرت المديرة وبقية المدرسات وجدوها مغشيا عليها من غارة الطائرة الفانتوم ، فكانت سماء مصر مُباحة وقتها من بعد النكسة ، واستمرت تلك الحال حتى أقام الجيش المصري سرا مايسمى بحائط الصواريخ الذي فاجأ الطيران الإسرائيلي بعدها .
واستمر محفوظ في عامه العاشر يعيش كل ماهو مختلف وغريب ، فقد تصادف وجوده بموقف الباصات الشهير بميدان عرب المعادي بعد ظهر يوم خميس ،كانت هذه هي المرة الأولى التي يحضر مثل هذا المشهد ، جحافل من عساكر الجيش تتوافد في كل لحظة على الموقف كل منهم يحمل مخلة صغيرة على ظهره لايعرف ماذا بها ، ووجدهم يستقلون الباصات في زحام شديد فوق مايتخيل ، وجذب ناظريه مشهد آخر بالموقف ، بائع يضع ترابيزة عريضة يقوم بتقطيع البطيخ بشكل خارطات متساوية تشبه الهلال والجنود يتدافعون للشراء في تزاحم كبير ، كانت الخارطة تباع بنصف قرش ، وأثاره هذا النهم الكبير الذي يأكل به العساكر خارطة البطيخ البسيطة ، فأدرك كم يعانون في معسكراتهم ، وحزن كثيرا لأنه أدرك كيف يعاني أخوه وحيد أكبر إخوته المجند منذ أكثر من ست سنوات ولايعلم متى ينتهي تجنيده ، فالعدو مايزال يحتل الأرض الغالية ولابد من تطهيرها أولا
وغدا نستكمل مع محفوظ بهلول البربري15
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق