الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

♕ إصبع عائبة ♕ بقلم الكاتب : مصطفى الحاج حسين

* (( إصبع عائبة )).. 


  قصة: مصطفى الحاج حسين. 


تَمّ اغتصاب (سميرة)، ابنة حارتنا، وهي في الخامسة عشرة من عمرها. لها إخوة وأخوات، أكبر وأصغر منها، فهي في مرتبةٍ وسطى بين إخوتها.


أمّها منهمكةٌ في المطبخ؛ تطبخ، وتغسل، وتنظّف، وتُرتّب، وتستسلم لرغبات زوجها (أبو رحمو) بعد منتصف الليل، وهي في ذروة الإرهاق، والتعب، والرغبة القويّة في النوم العميق.


كانت دارهم قريبةً من مدرسة الشهيد (صالح حجار)، التي تحوّلت إلى مركزٍ للجيش (الوحدات الخاصة). وقد انتبه القائد لتلك الفتاة، تقف وتتفرّج وتلهو أمام باب منزلها.


فناداها الضابط، وراح يسألها عن والدها، وإخوتها الذكور، وأخواتها البنات، وأمّها، وكافّة أفراد عائلتها.


ولمّا لمس الضابط عند هذه الفتاة مدى الرعب والخوف منه ومن عناصره.


صار يُهدّدها، بأنّه سيعتقل والدها، وإخوتها الشّباب، بتهمة علاقتهم بـ(الإخوان المسلمين)، والدليل: ذهابهم وتردّدهم على الجامع، بحجّة تأدية الصلاة.


خافت البنت، وراحت تترجّى الضّابط الأشقر، وتتوسّل إليه أن يترك والدها وإخوتها بحالهم، فهم لا علاقة لهم بـ(الإخوان المسلمين).


فطلب منها أن تُرافقه إلى داخل المدرسة، ولمّا استجابت بدافع الخوف، دعاها أيضًا لدخول مكتبه، فامتثلت مكرهة.


وهناك، في المكتب، أغلق الباب عليها، وقام باغتصابها، بعد أن هدّدها بالقتل. وقد شاهدت بأمّ عينيها كميّة السّلاح المرعبة المتواجدة في مكتبه فقط.


قام بتعريتها، وتمتّع بكامل جسدها الطافح بالأنوثة والحيويّة. 


بكت حين شاهدت قطرات الدّم الأحمر تَنساب من بين فخذيها، فأمرها بمسح الدم، بعد أن أعطاها المحارم البيضاء، قال لها:


– إنْ أخبرتِ أحدًا بما فعلناه، سأرمي والدكِ وأخويكِ في المعتقل.


بدافع الخوف، لم تُخبر أمّها بما تعرّضت له. حتّى شقيقتها (أميرة)، التي تكبرها بسنتين، والقريبة منها جدًّا، خافت من الاعتراف لها.


وحين مرّ عليها اليوم بسلام، ولم ينتبه أحدٌ من العائلة إلى حالها، شعرت بشيء من الأمان، فقد كانت طوال الوقت تتهرّب من مخالطة الجميع، بحجّة أنّها متوعّكة.


في اليوم الثاني، أرادت أن تُلقي نظرة خاطفة على الشارع وبوّابة المدرسة، وإذ بها تجد الضّابط الأشقر يجلس مع عناصره عند الحاجز.


ولمّا لمحها، ناداها أمام عناصره، الذين كانوا ينظرون إليها مبتسمين. حاولت أن تعود أدراجها وتدخل دارهم، فإذا بالضّابط يناديها بصوت آمر، وباسمها:


– (سميرة)... تعالي إلى هنا، بسرعة!


تسلّل إلى قلبها الصّغير الخوف... هذا الضّابط لا يخاف، ولا يحسب لأحد حسابًا، وإن لم تذهب إليه، سيصنع لها فضيحة، ويأمر عناصره ليقوموا بجرّها من شعرها، وإحضارها إليه، فهو مُعلّمهم!


فوجِدت نفسها تنصاع، وتتحرّك نحو الضّابط، الذي نهض بدوره، وأخذها إلى ذات المكتب، ليعاود النّوم معها، بوقتٍ أطول من الوقت الذي استغرقه في اليوم السّابق.


قال لها، بعد أن فرغ منها، وتركها كقطعة لحم تلبس ثيابها المرميّة على الأرض:


– كلّ يوم، في هذا الوقت... أريدكِ أن تأتي إليّ هنا، والويل لكِ إنْ تأخّرتِ... سأدخل إلى بيتكم، وأجرّك من شعرك الأسود هذا، أمام أمّك، وأحضرك إلى هنا!ِ. 


ومضت أيّام، و(سميرة) تُلبّي طلب الضّابط الأشقر، وتتسلّل بالخفاء عن أمّها وإخوتها، وتأتي طائعةً... إلى أن اعتادت هذا الأمر، وبدأت تُشارك ضابطها الأشقر المتعة واللذّة.


أشهرٌ عديدة مضت، وطابت لعناصر (الوحدات الخاصّة) الإقامةُ في المدرسة، ودوام الطّلاب ما زال معلّقًا، إنّهم في عطلةٍ مفتوحة، إلى أن يستتبّ الأمن والأمان في ربوع (سوريا).


ووقع المحظور، وحملت (سميرة)، وانفضح أمرها، بعد أن تعبت، وبدأت عوارض الحمل تظهر عليها، وصارت بطنها تكبر.


أمّها ارتابت في أمرها، فسحبتها إلى غرفتها، لتُحقّق معها... لكنّ (سميرة) حاولت أن تتهرّب، وألّا تعترف، وحلفت، وبكت، وأنكرت، وادّعت أنّها بخير، فقد كانت مصابة (بالرّشح)، وبمغصٍ عارض ألمّ بها.


لكنّها كانت تشعر الآن بأنّها قد تحسّنت... إلّا أنّ أمّها لم تقتنع، فأصرّت على أن تعرضها على (أمّ ساروب)، العجوز اللبنانيّة، التي تسكن في الحارة، مستأجرةً عند السّائق (أبو نجيب)، الذي قُتل ابنه (نجيب) منذ فترة، في حوادث الشّغب اللعينة.


وأمّ (ساروب) هذه، كانت تعمل قابلةً نسائيّة، ولها سنوات عديدة في هذه الحارة، وتملك خبرةً كبيرةً في أمور الحمل والولادة.


منذ النّظرة الأولى، والكلمة الأولى، قالت أمّ (ساروب) وهي تُبشّر أمّ (سميرة):


– مبروك... ابنتك حامل.


انهارت (سميرة)... وصُعقت أمّها... وأحسّت (أمّ ساروب) بأنّها تسرّعت... لكنّ الحقيقة لا يمكن إخفاؤها.


صاحت الأمّ بابنتها (سميرة)، المتخشّبة:


– مَن؟!.. قولي، مَن فعل بك هذا؟!.. ومتى؟!.. وكيف؟!..


وأجهشت (سميرة) بالبكاء، وارتمت على قدمي أمّها، المذهولة وغير المصدّقة.


وحاولت (أمّ ساروب) أن تتقدَّم من أمّ (سميرة)، لتهدّئ من روعها، وتخفّف من فاجعتها وألم روحها، فقالت:


– لا أدري ماذا أقول لكِ... ولكن أرجوكِ تماسَكي، وكوني مع ابنتكِ، لا عليها...  

ربّما تكون مظلومة... مغلوبة على أمرها... لقد مرّت عليّ حالات كثيرة مثل هذه.


قالت الأمُّ، بلهفة ومرارة وحرقة:


– ألا يوجد حلّ؟ أرجوكِ، هل عندكِ حلّ لمثل هذه الأمور؟


أجابت (أمّ ساروب) بأسف:


– يبدو أنّ ابنتكِ حامل منذ أشهر عديدة... يعني الجنين، صارت له روح.


فصرخت أمّ (سميرة) كالمجنونة، وقد فقدت صوابها، بينما ابنتها ما زالت تنشج، راكعة عند قدميها:


– قولي، يا ابنة الحرام!.. ممّن حبلتِ؟!.. ومنذ متى وأنتِ حامل؟!


كان لا يمكن لـ(أمّ ساروب) أن تُجريَ لـ(سميرة) عملية الإجهاض، فالعملية هنا تُعدّ جريمة قتل، وسيُحاسبها القانون، وهي مسيحية تخاف الله.


واعترفت (سميرة) لأمّها، ومن ثمّ لأبيها، عن الفاعل...


وكان أبوها، الذي يشخر كالثور الهائج من شدّة غضبه، مذهولًا، مصعوقًا، مرتجفًا من داخله... وكم تمنى على ابنته الكلبة أن تذكر اسمًا غير اسم ذلك الضابط!.. يا ليتها قالت: "الذي فعل بي هذا هو (جمال) ابن خالتي، أو (شهاب) ابن عمي"... لكان سحبه من رقبته وهدّده بالذبح إن لم يُصلح خطأه!


ولكن الآن... ماذا يفعل؟!


هل يذهب ويُواجه ذلك الضابط الأشقر، الذي كان يرمقه بنظرات الغضب، كلما مرّ بالقرب من حاجزه؟! الآن فقط، فهم معنى نظرات الغضب تلك... كأنّه كان يُحاول إخافته، وهو - في الحقيقة - كان يخافه فعلًا، ويخشاه، ويتجنّبه.


ماذا عليه أن يفعل الآن؟!  

يتركه ولا يُحاسبه؟! يتظاهر بعدم معرفته بمن اعتدى على شرفه؟!

ويتجنّبه... ماذا عليه أن يفعل الآن؟!..  

يتركه، ولا يُحاسبه؟!.. يتظاهر بعدم معرفته بمن اعتدى على شرفه؟!..  


وسأل، والدّمع ملأ حنجرته واختناقه:


- يا الله!.. لماذا هذا، يا الله؟!..  

أنا إنسان بسيط، وفقير، تركتُ ضيعتي لأشتغل هنا في (حلب)، كي أستطيع أن أُطعم أولادي... والآن، كيف سأُواجه الموقف؟!..  

هل أنا من سيُحاسب هذا الضّابط؟!.. ألا تعرف، يا الله، من هو؟!.. ألا تعرف من أيّ ضيعةٍ ينحدر؟!.. ومن أيّ طائفة؟!.. ومن يقف معه، ويُسانده؟!..


إنّه فوق القانون...  

نعم، هذا يستطيع أن يبول على القانون، ودستور البلاد، أمام القاضي الأوّل!..  


لا قدرة لي على مواجهته، أو حتى على معاتبته...  

أنا أضعف من هذا، يا ربّي... وأصغر... وأجبن...  

فلماذا وضعتني في هذا الموقف، يا ربّي؟!..


ابنته فعلت هذا، من شدة خوفها عليه، وعلى إخوتها (رحمو ورحيم)، وأمّها... لقد شاهدت هذا الضّابط، وعناصره، كيف قتلوا (نجيب) ابن جارهم، وكيف أصابوا برصاصهم فخذ (لبابة) ابنة الجيران، وكيف اخترقت الرّصاصة فخذها وخرجت من الطّرف الآخر...


وكان هذا الحقير، طوال الوقت، يُهدّد (سميرة) بأنّه سيعتقلهم أو يقتلهم، إن لم تستجِب لطلباته الوضيعة، وتتركه "ينام معها".


وتساءل (أبو رحمو):  

هل يكون جزاء (سميرة) القتل؟!.. إنّها ضحّت بنفسها من أجلنا نحن!..  


الموت عليكِ حرام يا (سميرة).. لكنّ تقاليدنا، وأعرافنا، وعاداتنا، ومفاهيمنا، ورجولتنا، وأخلاقنا، تقول:  


- يجب قتلكِ يا (سميرة). 

لا مبرّر لكِ... لا شفيع... لا عذر...  

وإن كنتِ تضحّين بنفسكِ من أجل عائلتكِ...  


لقد كان يضحك على سذاجتكِ.. لو كان لهم علينا ملاحظة، أنا وإخوتكِ، لما تركونا دقيقة واحدة...  

ضحك عليكِ يا (سميرة)... خدعكِ... استغلّ صِغَر سنّكِ...  

وأنا أستطيع أن أُحاسبكِ أنتِ فقط، وأقتلكِ أنتِ فقط...  

أمّا هو، فممنوعٌ عليّ أن أسأله: لماذا فعل بكِ هذا؟!..  

ممنوع عليّ أن أقترب منه... أن أنظر في عينيه... أن ألمس حذاءه...


لحذائه عند الدولة مكانة، أكثر من مكانتنا نحن يا (سميرة)...


سأقتلكِ، وأنا أحبّكِ يا (سميرة)...  

سأذبحكِ بيديّ، وأنتِ أطهر ما لمسته يداي...  

ستموتين، وأنتِ البريئة والضحية...  

جلبتِ لنا العار، يا ابنتي، وأنتِ كنتِ تريدين لنا الخير...  


حتى وإن قتلناكِ، ففعلتكِ الشنيعة ستطاردنا إلى الأبد، أنا وإخوتكِ...  

وأبناء عمومتكِ...  

من سيقبل أن يتزوّج واحدة من أخواتكِ؟!..  

من سيرضى أن يُعطي ابنته عروسًا لواحد من إخوتكِ؟!..


حتّى لو قتلناكِ...  

حتّى لو أحرقناكِ...  

حتّى وإن متنا كلّنا...  

سيحكون عنكِ... وسيحكون عنّا...  

لأولادهم، ولأحفادهم، وللتاريخ.


(سميرة) محبوسةٌ في غرفتها،  

لا أحد يدخل إليها، حتى أمّها...  

ممنوعٌ عليها الخروج، إلّا لقضاء الحاجة...  

وتكون تحت المراقبة الصارمة من الجميع،  

الكلّ مسؤولٌ عن تحرّكاتها، في الليل والنّهار.


سيرسل والدها، صباحًا، أحد ولديْه، إلى إخوتِه الثلاثة، في قريته الأصليّة،  

سيأتون ويتشاورون فيما بينهم،  

ويبحثون عن "الحلّ المناسب".


انطفأت جميع الأنوار،  

وهجع كلّ مَن في الدار إلى فراشه،  

لكنّ النومِ كان على خُصامٍ مع أفراد الأسرة...


كلٌّ منهم كان يفكّر، يتقلّب، يتساءل،  

يخطّط، يرسم، يعتزمُ، ينوي،  

يتخيّل، يتمنّى، يرغب، يتحسّر،  

يتألّم، يتأوّه،  

ويستجمع قواه.. يَمْسَحُ دَمْعَه، يَشْهَقُ بِصَمْت...  

وفَجْأَةً، انبعثَ صوتٌ قويٌّ، يَصرخ، ويستغيث، ويتألَّم.


اشْتَعَلَت الأضواءُ من جديد،  

فُتِحَتْ أبوابُ الغُرَف،  

الجميعُ يركضُ إلى غُرْفَةِ (سميرة)، مصدرِ الصّوتِ المنبعث...  

كان البابُ مفتوحًا،  

ووجدوا فيه (رحيم)، واقفًا، وبيده سِكّينٌ جاء به من المطبخ،  

وكانت (سميرة) مطعونةً عند كتفِها،  

والدّمُ يَغْدِقُ، ويَنْبُعُ من تحت بلوزتها...


ومباشرةً، هجم عليه أبوه،  

بينما كانت الأمُّ وابنتها الكبرى (أميرة) تصرخان وتبكيان.  

صاح الأبُ بانفعالٍ وغضب:


- ماذا فعلتَ يا مجنون؟!


فَزَعَق (رحيم) بقوةٍ وانفعالٍ وتحدٍّ:


- سَأقتلُها!.. والله نهايتُها على يدي!.. الفاجرةُ، العائبة!


وفجأةً... دُقَّ بابُ الدّار،  

دقّاتٍ عنيفةً، متواليةً، غير منتظرة،  

يُرافِقُها صراخٌ، وزَعيقٌ، وصياح، وأوامرُ شديدة..

ومع رشقةٍ من أعيرةٍ ناريّة:


- افتحوا الباب!.. أسرِعوا!.. هَيّا!.. عَجِّلوا!


ثمّ بدأت رَفساتُ الأبوابِ العسكريّة، تَنهالُ على البابِ المغلق، وكأنّ لا أحدَ يرغبُ بفتحه.  

وفُتِحت أبوابُ الجوار، وأطَلَّت منها الرؤوسُ السافرةُ والمحجّبة، وخرج الرجالُ، والشبابُ، والأطفالُ الصغار.


تقرّرَ قتلُ (سميرة).  

(أبو رحمو) وأخوتُه الثلاثةُ اتّخذوا قرارَهم، ولا رَجعةَ لهم عنه.  

أمّا الضابط، فسيكون حسابُه في ما بعد، لم يُواجَهْ أحدٌ الآن، سيتظاهرون بعدمِ معرفةِ من جَنى على ابنتِهم (سميرة).


واتفقوا على أنَّ مَن سيقومُ بمهمةِ القتل، هو شقيقُها الصغير (عُبادة)، عمرُه بحدود الثانية عشرةَ سنة، تحت السّن القانونيّ.  

حينها سيكونُ حكمُه مُخفَّفًا جدًّا، لصِغَرِ سنّه.


وصاروا يُدرِّبونه على استعمالِ السِّلاح.  

اشتروا له مسدّسًا، وضعوه في مكانٍ بارز، عند سطحِ منزلهم، وتركوه ليجدَه من تلقاءِ نفسه، حتّى لا يعترفَ على صاحبِ المسدّس، أو على من اشتراه له.


بدأوا بتدريبه: كيف يُمسِك المسدّس،  

كيف تتمّ عمليّةُ التّلقيم، وكيف يتمُّ الضغطُ على الزِّناد، إلى أن يُفرِغَ طلقاتِه التِّسع،  

وكيف يُسدِّد ويُصوِّب، ويكونَ رابطَ الجأش، لا يخاف، ولا ترتعش يدُه،  

وألا يتراجع، أو يشفق، أو يستمع لنداءِ من يطلب عطفَه، أو يرعبه الصّراخ، أو رؤية الدمِ النّازف.  

وأن يكونَ سريعًا في تنفيذِ المهمّة.


كلُّ هذا سيكونُ مقابلَ أن يشتري له والدُه درّاجةً هوائيّةً، ليلعبَ بها، ويقودَها في الحارة.


وكان الطفلُ (عُبادة) سعيدًا بذلك، فرِحًا، حيث كان يَهرعُ لأخته (سميرة)،

ويُخبِرها بأنّه يتدرّب على استعمالِ المسدّس، ليقتلها، ويحصل على جائزةٍ من أبيه، وهي الدّراجة الهوائيّة.


(سميرة) كانت تعلمُ بأنّها ستموت.  

هي لا تُغادرُ غرفتها، إلّا لقضاء حاجتها، محروسةً من أخويها (رحمو) أو (رحيم).  

وكانت حين تجوعُ جدًّا، تَزدَرِدُ بضعَ لُقيمات، لتمنعَ وجعَ الجوع عنها،  

ولا تشربُ إلّا إذا تشقّقت شفتاها من العطش،  

ولا تلجأُ للنّوم، إلّا إذا انهدّ حيلُها، وفرض النّومُ نفسه عليها.


الأمُّ ممنوعةٌ عنها بتاتًا، مع تهديدٍ لها بالحساب، لأنّها أهملت تربيةَ ابنتها، لكنّ الحساب مؤجَّل.  

شقيقتها (أميرة) كذلك الأمر، لا يُسمَح لها بمقابلةِ أختها (سميرة)، ولا بالتّحدث معها.


الضّابط الأشقر أدركَ أنّ أهل (سميرة) قد اكتشفوا أمرَ ابنتهم،  

لكنّه يجهلُ إن كانت قد اعترفت عليه أم لا.. وهو في كلّ الأحوال، غيرُ سائلٍ، أو مهتمّ، أو خائف،  

فهو محميٌّ بعناصره الذين يُرعبون القلوب.


كتبت (أميرة) على ورقةٍ صغيرة،  

وأعطتها لأخيها الصّغير (عُبادة)، وطلبتْ منه أن يُعطيها لـ(سميرة)،  

فهو مسموحٌ له بمقابلتها.


أخذ (عُبادة) الورقة الصغيرة، ودسّها في جيب بنطاله، ثمّ ناولها إلى (سميرة)، قائلًا:


- سيقتلونكِ... اهربي.


طوَت (سميرة) الورقة، ولم تقل شيئًا، كانت مستسلمةً لقدرها.


ثمّ قالت الأمّ لابنها (عُبادة)، تُوشوشه:


- قُل لسميرة إنّ أمّك تقول لكِ: اهربي... ستُقتلين.


ونفّذ (عُبادة) ما طلبته منه أمّه، وقال لـ(سميرة) الشّاحبة الوجه:


- قالت ماما... اهربي... سيقتلونكِ.


ضمَّت (سميرة) رأس أخيها (عُبادة) إلى صدرها، وقبَّلته، وبقيت صامتة.


وفي اللّيل، نادى (رحمو) شقيقه (عُبادة)، وهمس في أذنه:


- أريدك أن تقول لسميرة: إنّ (رحمو) يقول لكِ اهربي... سيقتلونكِ.  

  وأنا، في هذا اللّيل، سأترك لها باب الدّار مفتوحًا.


وكالعادة، ذهب (عُبادة) إلى أخته (سميرة)، ونقل لها قول (رحمو)، ولم تُحرّك ساكنًا.


وفي هذه المرّة، صاح (رحيم)، الذي حاول طعن أخته (سميرة) سابقًا، على (عُبادة)،  

وطلب منه أن يدخل على (سميرة)، ويطلب منها الهرب فورًا من الدّار، والذّهاب إلى أيّ مكان،  

لأنّهم سيقتلونها، وهو سيقوم بالتّغطية على هروبها الآن.


لكنّ (سميرة) ظلّت في غرفتها، ولم تُغادرها، كانت تسهر... مع دمع عينيها.


وقبيل الصّباح، وبعد صلاة الفجر، طلب (أبو رحمو) من ابنه (رحيم)، الذي يقوم بحراسة غرفة (سميرة)، أن يدخل غرفته، وينام بعض الشّيء، ويبقى هو بدلًا عنه للحراسة.


ذهب (رحيم)، ودخل (أبو رحمو) على ابنته (سميرة). وحين شاهدته، انكمشت على نفسها، ونهضت بتثاقل وجزع.


قال لها بهدوءٍ مخنوق:


– ابنتي... هَيَّا، حاولي أن تهربي.  

مطلوبٌ منّي أن أقتلك، وأنا لا أقوى على هذا.  

خذي هذه النّقود، وافتحي الباب، واذهبي إلى بلاد الله الواسعة.  

اذهبي أنتِ، واتركي عاركِ لي ولإخوتكِ.


رفضت أن تمدّ يدها للنقود، التي ظلّت في يد أبيها، وارتمت تُقبِّل يده، وتبكي، وتطلب منه مسامحتها.


وعند العصر، بعد الصّلاة، بدأ التّجمّع عند باب الدّار، في الحارة.. الجميع حضر.


وعند الجهة المقابلة لباب الدّار، التمَّ الأعمام الثّلاثة، وأولادهم الشّباب الذين لحقوا بآبائهم، و(أبو رحمو)، وولداه (رحيم) و(رحمو)، وأمّ (رحمو)، وابنتها (أميرة)، والعمّات، والخالات، وزوجات الأعمام، وبنات الأعمام، وعدد كبير من أهالي الحارة.


وكان (عُبادة) يبتسم، لكلّ من ينظر إليه، وكأنّه في نزهة... وكان معظم المتواجدين جالسين، يُسنِدون ظهورهم إلى الجدران.


نظر الأب إلى ابنه (عُبادة)، ابتسم مشجّعًا، وقال:


– هيّا يا (عُبادة)... أثبتْ لي شطارتك.


وتحرّك (عُبادة)، ودخل الدّار بمفرده، وكانت خالية إلا من (سميرة).


أمّا عناصر الجيش، فكانوا عند حاجزهم، يراقبون ولا يتدخّلون... والضّابط الأشقر لم يكن بينهم.


فتح (عُبادة) الباب على (سميرة)، وفي يده يحمل المسدس. 


نهضتْ حين رأت أخيها، وهتفت:


– هل حان موعد قتلي؟!.. اقتلني، ولكن لا تقتله.


وأشارت بيدها إلى بطنها:


– سيموت... ولكن لا تُصوِّب عليه... لا ذنب له يا (عُبادة).


وانهمر الرّصاص... دوى، تصاعد، لعلع...


وانبعثت الزّغاريد من خارج الدّار، تصاعدت، انتشرت، خيّمت على سماء الحارة، وانتقلت إلى الحارات المجاورة...


وهنا بادر العمّ (عدنان)، شقيق (أبو رحمو)، وأخرج من جيب شرواله مسدّسًا، وأشهره إلى الأعلى، وراح يُطلق الأعيرة النّارية، ويصرخ:


– إصبعٌ عائبة... وقطعناها.*


 مصطفى الحاج حسين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

♕ كمْ دولارا ً يساوي=شرف العالم ♕ بقلم الشاعر : وديع القس

 كمْ دولارا ً يساوي=شرف العالم..!!.؟ شعر/وديع القس / كيفَ ترضى الذلَّ عنْ عزِّ الكرام ِ كيفَ تُبتاعُ الضمائرْ بالحرام ِ.؟ / يحرقونَ الكونَ ف...