السبت، 2 أغسطس 2025

♕ قصة .. حسبي الله ونعم الوكيل ♕ بقلم الكاتب : ماهر اللطيف

حسبي الله ونعم الوكيل 


بقلم: ماهر اللطيف


بسطت يديها المرتجفتين باتجاه الكاميرا، وعيناها تذرفان الدمع انهمارًا. جسدها النحيف يرتجف فوق الأرض، يعلو ويهبط كأنّه ينازع أنفاسه الأخيرة. بَرَزَت ضلوعها، وانكشفت عظامها تحت جلدها الجاف، نتيجة مجاعةٍ متعمّدةٍ، لم تبقِ فيها شيئًا من الحياة.


أنينها وصلني متقطعًا، تبِعه صوت خافت بالكاد سمعته وسط الضجيج، لم أفقهه إلا بعد تركيزٍ عميقٍ:


– جُعت... عطشت... لم أعد أقوى على التحمّل. كل جزءٍ في جسدي يؤلمني...


(تتوقف لوهلة، تحاول التقاط أنفاسها، تبتلع ريقها اليابس، ثم تتابع)


– أرجوك، سيدي... لا أريد أن أموت هكذا... أريد أن أستشهد وأنا أدافع عن وطني وديني... ولو برمية حجر في وجه العدو...


ثم سكتت فجأة. ارتخت يداها وسقطتا على الأرض، انكمش جسدها، بقيت عيناها مفتوحتين، متجمدتين، تغرورقان بالدمع، لكنّ الروح غادرت. لم يعد ثمّة نفس يُسمع، ولا نبض يُرى.

اقتربت منها، تركت آلتي جانبًا، هرعت نحوها محاولًا إنقاذها، لكن دون جدوى...

فقد ماتت وفي قلبها أمنية... قطرة ماء، رغيف خبز، حبة قمح...


صرخت بأعلى صوتي، علّ صداه يوقظ هذا العالم الأصمّ، الميت وسط هذا الدمار الممتد، والجثث المتناثرة، وأنين الجوعى، ووجع الجرحى، ودموع الثكالى والأيتام.

انهمرت دموعي حرقة ولوعة، وارتجف جسدي كأنّ صعقةً كهربائية اخترقته. لم أعد أرى أو أسمع شيئًا، رغم دويّ الرصاص وانفجارات صواريخ الطائرات الحربية التي تدكّ المكان دكًّا:


– حسبي الله ونعم الوكيل. إنا لله وإنا إليه راجعون.


– (صوت خافت، متقطع، مجهول المصدر) آمين... يا رب العالمين... حسبنا الله ونعم الوكيل في العدو ومن والاه...


– (صوت آخر، مبحوح) أرجوك يا بُني... ساعدني... لا أحتمل هذه الحجارة الجاثمة على صدري...


– (آخر، يصيح بأعلى صوته رغم الألم) أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله... (تمتمة غير مفهومة، ثم صمت مطبق)


– (صوتي منهك، باكٍ، متوسّل) من لا يزال على قيد الحياة؟ ليخبرني... لأقدّم له ما أستطيع...


مشيت ببطء بين الركام. حاولت إنقاذ من بقي حيًّا، ساعدت هذا، وذاك، لكنّ أغلب المحاولات باءت بالفشل.

أنقذتُ من استطعت، وشهدتُ على لحظات الموت في عيون آخرين، وشاهدت جراحًا تنزف ولا مغيث، وآهاتٍ محاصرة تحت الأنقاض لا أقدر على انتشالها...


فجأة، ركلني حذاءٌ أسود على فمي. شعرت بألمٍ مفاجئٍ، انفجرت شفتاي، تساقطت أسناني، وراح الدم يسيل غزيرًا. التفتُّ فإذا بجندي من جنود العدو، يشتم، يسب، يبصق، ويضرب بلا رحمة، وهو يصيح بعربيته الركيكة:


– "ابتعد من هنا أيّها القذر... وإلا كان مصيرك مثل هؤلاء الحيوانات..."

وأخرى من العبارات النابية التي تقشعرّ لها الأبدان وتشمئز منها الأرواح.


لكنّني لم أُحرّك ساكنًا. استحضرت في لحظتي تلك "الهولوكوست" وما رافقها من ويلات، وقارنتها بما أراه الآن أمامي... ثمّ أيقنت أن ما يحدث هنا يفوق الوصف، يفوق التاريخ نفسه. فالإبادة اليوم ليست فقط قتلًا، بل تجويعًا، تعطيشًا، حصارًا متعمّدًا، وقتلًا متعمّدًا للكرامة، للإنسان،تهجيرا قسريا. 


وما هي إلا لحظات، حتى انهال عليّ ضربٌ مبرح من أكثر من جندي، وسط ضحكاتهم الساخرة وتهكّمهم المتواصل. سقطت أرضًا، فقدت وعيي، وانطفأت الصورة في عيني وأنا أردد الشهادتين متبوعتين ب "حسبي الله ونعم الوكيل"




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

♕ لكل حياة صوت ♕ بقلم الشاعرة : سلمى رمضان

 لكل حياة صوت.. لكلِّ حياةٍ ديمومة لا يُثنيها المـوتْ وسيفُ عدلٍ  يصدح بأعلى الصوت تحدى الظلم  وقاتل في شتّى الظروفْ خطاهُ شامخةٌ تمضي، وترف...