الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025

♕ قصة .. المتطوعين بلا عنوان ♕ بقلم الكاتب : بلعربي خالد

 العنوان: المتطوعين بلا عنوان " وهج ونبض واثر"

 Des bénévoles sans titre

بقلم الكاتب بلعربي خالد ( هديل الهيضاب)

 "نبض"

في صباحٍ رماديٍّ من شتاءٍ قاسٍ، دوّى صوت الانهيار الأرضي في قرية جبلية نائية، فغمر الطين والحجارة البيوت، وعلقت الأرواح تحت الركام. لم يكن هناك وقت للتفكير، فقط للنجدة. في تلك اللحظة، انطلقت سيارات الهلال الأحمر كأنها سهام من نور تخترق الظلام.

كان "سليم"، شابًا في العشرينات، قد تطوّع قبل أشهر فقط، بدافع بسيط: "أريد أن أكون سببًا في نجاة أحدهم". لم يكن يعلم أن اليوم سيأتي بهذه السرعة. وصل إلى موقع الكارثة، فوجد طفلةً تبكي تحت سقفٍ منهار، لا يُرى منها سوى يد صغيرة ترتجف. دون تردد، زحف سليم تحت الأنقاض، رغم صرخات زملائه الذين حذّروه من خطر الانهيار الثاني. لكنه لم يتراجع. أخرج الطفلة، ثم عاد ليبحث عن أمها، فانهار السقف عليه. نُقل إلى المستشفى، مصابًا بكسر في العمود الفقري، لكنه ابتسم حين علم أن الطفلة وأمها بخير.

في غرفة التبرع بالدم، كانت "ليلى"، ممرضة متطوعة، تستقبل طوابير من الناس الذين جاؤوا لإنقاذ المصابين. لم تنم منذ يومين، لكن كل قطرة دم تُنقذ حياة، وكل حياة تستحق السهر. كانت تهمّ بتوديع شابٍ تبرّع للتو، حين سقط مغشيًا عليه. اكتشفت أنه مصاب بفقر دم، لكنه أصرّ على التبرع، قائلاً: "أنا بخير، لكنهم ليسوا كذلك".

وفي حادث سير مروّع على الطريق السريع، وقف "ياسين"، مسعف الهلال الأحمر، وسط النيران والدخان، يبحث عن صوتٍ بين الحطام. وجد امرأةً حاملًا، تنزف وتصرخ. حملها على ظهره، وركض بها نحو سيارة الإسعاف، رغم أن ساقه كانت مصابة. أنقذها، وأنقذ طفلها الذي وُلد بعد ساعات، وسُمّي "ياسين" تكريمًا له.

هؤلاء ليسوا أبطال أفلام، بل أبطال الحياة. لا يملكون قوى خارقة، بل قلوبًا تنبض بالرحمة، وأرواحًا تضيء في العتمة. إنهم "نبض" الإنسانية، حين يتوقف كل شيء، ويبدأ الأمل.

"وهج"

في ليلةٍ صيفيةٍ حالكة، اجتاح حريقٌ مهول غابةً قريبة من قرية صغيرة، فامتدت ألسنة اللهب إلى البيوت، وأصبح الهروب مستحيلًا. وسط الصراخ والدخان، ظهر رجال الهلال الأحمر كوميضٍ في العتمة، يركضون نحو النار لا بعيدًا عنها.

من بينهم كانت "نرجس"، متطوعة حديثة، لم تُجرب من قبل مواجهة الكوارث. لكن حين رأت طفلًا يصرخ خلف نافذة مشتعلة، لم تتردد. دخلت المنزل، غطّت وجهها بقطعة قماش مبللة، وخرجت تحمل الطفل بين ذراعيها، تحترق أطراف ثوبها. حين سألها أحدهم: "لماذا فعلتِ ذلك؟"، أجابت: "لأنني كنت هناك، وكان هو وحده".

في مركز الإغاثة، كان "طارق"، شابٌ فقد والده في حادث قبل سنوات، يوزّع الطعام والبطانيات على الناجين. رأى امرأةً مسنّة ترتجف، فخلع سترته وألبسها إياها. حين علم أنها فقدت منزلها، عرض عليها أن تسكن مع أسرته مؤقتًا. لم يكن يعرفها، لكنها كانت بحاجة، وكان هو قادرًا.

وفي حادث قطارٍ مروّع، هرع "جمال"، مسعف متمرّس، إلى موقع الحادث، فوجد شابًا عالقًا بين الحديد، ينزف بشدة. لم يكن هناك وقت لنقله، فطلب من زملائه حقيبة الإسعافات، وأجرى له عملية ميدانية تحت ضوء الهاتف. أنقذ حياته، ثم جلس بجانبه حتى وصلت الطائرة الطبية.

"وهج" ليست مجرد نار، بل نورٌ ينبثق من قلوبٍ لا تعرف الخوف، من أناسٍ لا يسألون "لماذا أنا؟"، بل يقولون "أنا هنا". هم شعلة الأمل حين تنطفئ كل الأنوار، وهم الدفء في برد المصائب.

"أثر"

في أحد مخيمات اللاجئين على الحدود، حيث الغبار يعلو الوجوه، والصمت يصرخ من العيون، كان الهلال الأحمر يعمل كخلية نحل لا تهدأ. بين الخيام المهترئة، كانت "سُهى"، طبيبة متطوعة، تمسح العرق عن جبينها وهي تفحص طفلًا يعاني من الحمى. لم يكن لديها سوى حقيبة صغيرة، لكن داخلها كانت تحمل أملاً كبيرًا.

في تلك الأيام، انتشر وباءٌ غامض، وبدأت الحالات تتزايد. لم يكن هناك مستشفى، فقط خيمة طبية، وبعض المتطوعين الذين قرروا أن يكونوا "أثرًا" في حياة الآخرين. سُهى لم تغادر الخيمة لخمسة أيام، تنام على كرسي، وتأكل ما يُقدّم لها من بساطة، لكنها كانت تبتسم لكل مريض، وكأنها تقول له: "أنت لست وحدك".

في نفس المخيم، كان "بدر"، شابٌ هادئ، تطوّع لتوزيع الماء النظيف. في يومٍ عاصف، سمع صراخًا من خيمةٍ بعيدة، فركض ووجد امرأةً تلد وحدها. لم يكن يعرف شيئًا عن التوليد، لكنه تذكّر أن سُهى علّمته بعض الإسعافات. ساعدها، وولد الطفل بسلام. حين حمله بين يديه، شعر أن الحياة يمكن أن تبدأ حتى في أقسى الظروف.

وفي منطقة نزاع، كان "عادل"، مسعف الهلال الأحمر، ينقل الجرحى تحت القصف. في إحدى المهمات، وجد طفلًا مصابًا، فغطّاه بجسده ليحميه من الشظايا. أصيب عادل، لكنه أنقذ الطفل. حين سُئل لاحقًا: "هل كنت خائفًا؟"، قال: "الخوف لا يُغيّر شيئًا، لكن الأثر يبقى".

"أثر" ليست مجرد بصمة، بل هي حياة تُمنح، وكرامة تُستعاد، ويدٌ تمتد في العتمة لتقول: "أنا هنا من أجلك". هؤلاء المتطوعون لا يطلبون مقابلًا، فقط أن يبقى الأثر حيًا في قلب من نجا.

                                                                                          نهاية

                                                                                                        بلعربي خالد 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

♕ على طريق لجدود ♕ بقلم الشاعر : رواح حسن

 على طريق لجدود على طريق جدودنا سرنا  نْغَنّيو اللحن والنغمة  لباسنا الجلابة والبلغة والقلب عامر بالنية فْالمواسم نحضرو بخيولنا  وبارودنا تي...