لماذا رجعتِ؟
بعد أن صار الغياب بحراً بيننا،
وبات الوداع شجرةً يابسة في فناء الذاكرة.
أتراك عدتِ لتستعيد شيئاً مما تركته؟
أم أنكِ جئتِ لأنكِ أخيراً أدركتِ
أن بعض العودة أعمق من المغادرة؟
صورتكِ لا تزال معلقةً هناك..
لم يجرؤ الغبار على الاقتراب منها،
وكأن روحكِ تحرسها من النسيان.
وعطركِ لا يزال يرقص على ضفاف قلبي،
كأن الرياح تعلم ألا تمسح آثاركِ.
أما عيناي.. فلا تزالان تبحثان عن ملامحكِ
في كل ظل، وفي كل بصمة ضوء.
لا تسألني عن الحنين..
فهو لم يمت، بل صار نبضاً صامتاً
يتردد في الأماكن التي أحببتكِ فيها.
والعمر الذي مضى لن يعود،
لكن عودتكِ قد تعيد إلى قلبي سؤالاً:
ماذا لو كانت النهايات مجرد بدائل مؤقتة
للقصص التي تستحق أن تُكتب من جديد؟
.........................................
رجعتِ..
فلا تجعل عودتكِ غيمة بلا مطر،
ولا ذاكرة بلا مستقبل
السطر الاول لأن الغياب، مهما اتسع، بحرٌ وهمي
صنعته أيادٍ من ظنونٍ ونسيان.
ولأن الوداع، حتى وهو شجرةٌ يابسة،
تبقى جذوره حيةً تحت ثرى الأزمان.
لم آتِ لأستعيد شيئاً.. فكل ما تركته
صار جزءاً مني، كالنبض في الجسد.
جئت لأنني أخيراً فهمت
أن "البحر" بيننا كان مرآةً لهدوئي المجهد.
جئت لأن "الغبار" الذي لم يجرؤ على لمس صورتك
كان يهمس لي كل ليلة: "إن الذي يحرسها هو الحب، لا النسيان".
ولأن "الرياح" التي تعهدت بعدم مسّ آثار عطرك
صارت تحمل أنفاسي إليك في كل مكان.
الحنين لم يكن نبضاً صامتاً فحسب،
بل كان بلغةً جديدةً تتعلمها الشفتان.
تعلمت فيها أن النهايات ليست سوى محطات
تُعيد ترتيب الحروف.. لتبدأ القصة من عنوانها الثاني.
عودتي ليست غيمة بلا مطر،
بل هي جرأة المطر الذي يعود إلى أرضٍ ظنها جافة.
هي محاولةٌ لنسج ذاكرةٍ جديدة
من خيوط الضوء التي بقيت بين جفنيك وقلبي الواقف على أطراف أصابعه.
هذه الكلمات..
هي قاربٌ أعبر به بحركِ الوهمي،
حاملاً ورقةً بيضاء،
ومرساة أمل.
فهل تسمح لنا بأن نكتب عليها، من جديد،
أول سطر من فصلنا الثاني؟
الفصل الثاني.
"أعرف أن الخريف مرّ من هنا، لكنني جئت لأزرع ربيعاً في ثنايا الصمت الذي تركناه."
السطر الثاني:
"ليس ربيعاً من أزهارٍ تذبل، بل من فهمٍ جديد..
حيث الورقة التي سقطت من شجرة الوداع القديمة،
صارت ورقةً بيضاءَ نكتب عليها قواعد حبٍ لم يجربها الزمن بعد."
السطر الثالث:
"لن أعدك بأنني سأنسى أن الغياب كان بحراً،
ولكني أعدك بأنني سأعلمك صناعة القوارب من كلماتنا البالية."
السطر الرابع:
"ستمسك بمجاديف من خشب الذاكرة الهش،
وأنا سأرفع الشراع نحو جزيرةٍ لم نكتشفها من قبل،
حيث لا توجد خرائط للعودة، ولا بوصلة تشير إلا إلى 'الآن'."
السطر الخامس:
"في هذه الجزيرة، سنبني بيتاً من أسئلةٍ لا تخاف من الإجابات،
شرفته تُطل على بحر الظنون القديم، لكن الأمواج لن تصل أبداً إلى عتبة الباب."
السطر السادس:
"ستكون نافذته مفتوحةً دوماً على رياحٍ تحمل عطراً جديداً،
عطراً نصنعه من رحيق اللحظات التي لم نعشها بعد،
ومن رمال الأمس الذي صار مجرد إطارٍ لصورتنا الجديدة."
السطر السابع:
"هنا.. لن نكون شاهدين على الماضي،
بل بستانين لزمنٍ نبتكرُه بأنفسنا..
زمنٌ لا يفرق بين 'غاب' و 'عاد
لأن كل غيبة ستكون مجرد نفَسٍ نأخذه كي نعود أكثر قرباً."
السطر الثامن:
"وفي الليل، عندما تملأ النجوم صفحة السماء،
سنقرأها كما لو أنها يومياتٌ نكتبها معاً..
لا نبحث فيها عن أبراج تحدد مصيرنا،
بل نرسم بأصابعنا صوراً جديدةً لمواقعنا في هذا الكون الواسع."
السطر التاسع:
"وأخيراً..
سنترك الباب موارباً للضوء،
وللرياح، وللضيوف الجدد،
ولكل قصيدةٍ لم تُكتب بعد.
لأن هذا الفصل..
ليس نقطةً في نهاية جملة،
بل فاصلةٌ تنتظر أن نكملها معاً..
كلمسةٍ أولى على جبين الصباح."
---
المشهد الثاني: حفلة الشاي تحت شجرة الوقت
اجتمعتْ دُمى الذاكرةِ حول مائدةٍ من قشور الأيام،
كانت أمي توزعُ الابتساماتِ في فناجينَ من خزفٍ قديم،
بينما كان أبي يعلّمُ الظلَّ كيف يرقصُ على أنغامِ العودة.
كانت جدتي تحيكُ من خيوط الشمسِ بطانيةً للبرد القادم،
تُلوّنها بحكاياتٍ عن قمرٍ لم يغبْ عن نافذتها أبداً.
المشهد الثالث: موعد مع طائر السفر
في الصباح،
التقيتُ بطائرٍ يحملُ حقيبةً من ريشتين،
سألني:"أترغبُ في العودةِ إلى أيامٍ لم تعشها بعد؟"
أومأتُ برأسي..
فحملني إلى مدينةٍمن زجاج،
كانت أمي هناكَ تزرعُ نجومَ اللغز في حديقة المنزل،
وأبي يبني سوراًمن قطراتِ ندى لحماية أحلامنا.
المشهد الرابع: حارس النهر
عند منعطف النهر،
قابلتُ طفلاً يحملُ عصا سحريةً من قصب،
كان يرسمُ على الماءِ وجوهاً لأحفادِه الذين لم يولدوا بعد،
قال لي:"الذاكرةُ ليستْ شريطاً يعيدُ نفسه،
بل نهرٌيمنحُ كلَّ جيلٍ قطرةً مختلفة."
المشهد الخامس: كرنفال الظلال
عند الغسق،
تناديتْ ظلالُ العائلةِ على جدارِ الزمن،
كانت ترتدي أقمصةًمضيئةً وتلعبُ الغميضة،
ظلُّ جدي يختبئُ في جيبِ سترتي،
وظلُّ جدتي يتدلى من حبلِ غسيلِ الذكريات.
المشهد السادس: مرصد الأحلام
في منتصف الليل،
اصطحبتني أمي إلى سطحِ الحكايات،
أشارت إلى النجومِ وقالت:
"انظري.تلك النقطةُ الزرقاءُ هي يومُ زفافكي،
وتلك البقعَةُالذهبيةُ هي ضحكةُ حفيدتك الأولى،
أما الحلقةُالمحترقةُ هناك..
فهي جرحُ الوداع الذي سيتحوّلُ إلى نجمةِ دليل."
المشهد السابع: مخبز الروح
قبل الفجر،
دخلتُ إلى مخبزِ الأقدار،
كانت أمي تعجنُ ذكرياتِها مع رحيقِ الياسمين،
وتصنعُ خبزاً يمنحُ الآكلين قوةَ العودةِ إلى أيّ زمان.
المشهد الثامن: حفلة التناسخ
اجتمعتْ أرواحُ العائلةِ في حلبةِ الرقصِ الكونية،
كانت أمي ترتدي فستاناًمن ضوء القمر،
وراحتْ تدورُ في دائرةِ الأجيال،
تتبادلُالأجسادَ مع أحفادِ أحفادها،
في لعبةٍلا تنتهي من العطشِ للحياة.
المشهد التاسع: وداعٌ مؤقت
عند الفجر،
ودعتُ أمي في محطةِ الأوهام،
كان القطارُمصنوعاً من ضبابِ الحنين،
والتذكرةُورقةَ شجرٍ من شجرةِ العائلة.
قالت:"لا تبكِ.. فكلُّ قطارٍ يغيبُ عن المحطة
يعودُيوماً كنسيمٍ يطرقُ نوافذَ الأحفاد."
المشهد العاشر: البيت المتجدد
عدتُ إلى المنزل..
فوجدتُ أمي جالسةً في صورةٍ على الجدار،
تسقِي زهرةَالأرواحِ التي لا تموت،
بينما كانت نسخةٌأخرى منها
تُهيئُ لي الفطورَ في المطبخ،
وتحيكُ من خيوطِ الفجرِ معطفاً للمستقبل.
ها هي العائلةُ..
تموتُ وتولدُ في كلِّ لحظة،
كموجات بحرٍ يغسلُ شاطئَ الأبدية.
الزقاق العتيق

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق