قصة قصيرة
"حمل"
أسندت رأسها المثقل بالهموم على الطاولة... لا شيء يؤنس وحشتها في تلك الغرفة الباردة...تناجي وحدتها أحيانا....وتبكي نفسها مرارة الحرمان أحيانا أخرى.
ثلاث سنوات مرت بعد زواجها ولم ترزق طفلا بعد. لم تعترض يوما على مشيئة الله... ولكن سليمان بدأ يضجر...خاصة أمام تعليقات أمه الجارحة كل يوم:
_محمود صديقك...تزوج الصيف الماضي...وهاهو ابنه الآن بين أحضانه...وخالد ابن خالتك...لم يمض على زواجه أكثر من شهرين... وزوجته حامل...وأمه سعدية لا تفتأ تتبجح بوحم كنتها...وكأنها تريد إغاضتي... إلا زوجتك...أرض بور...قاحل... إلى متى ستنتظر... العمر يمر بسرعة... وأنت لا مؤنس لك...ولا ولدا يكون سندا لكبرك... وعصا لك وقت عجزك...أريد أن أحمل أطفالك بين يدي قبل أن أوارى الثرى.
_بعد عمر طويل...الأمر بيد الله...لا حيلة لنا فيه.
_لست مطالبا بالانتظار...طلقها وسأزوجك بكرا...خصبة المنابع كالربيع
_أمهليني....لعل الفرج قريب
_من أين لك بالفرج معها...كم جربنا الأدوية...وكم سقيناها الأعشاب...وعبثا...الأرض التي يعشش الصوان في أديمها...من الصعب أن تنبت الزرع...هذا إن لم يكن الأمر مستحيلا...
_فلننتظر...لعل الله يحدث أمرا.
كانت تسمع كلامهما من وراء الباب... عادت إلى غرفتها...تبتلع نشيجها في صمت...كي لا يسمع...تواري الجدران دمعها...
حماتها كانت رافضة للزواج منذ البداية...ومازاد الطين بلة...عدم إنجابها... إلى متى سيصمد سليمان أمام إلحاحها...هو يسعى جاهدا لكي لا يجرح شعورها...وكم حاول حمايتها من انتقادات أمه اللاذعة...ولكن.... هي تعرف أنه في قرارة نفسه يشتهي ولدا... ترى عطفه على أبناء الجيران...وفرحته كلما اقترب منه طفل يطلب أمرا ما...هي تستشعر....نسيم الحرمان...يسري في أوصاله...ولكنه...يواري رغبته احتراما لها...وكان ذلك أكثر ما يؤذيها...لأنها...في أعماقها...تشعر بالذنب...أنها لم تنجب له ولدا.
زارتهم اليوم جارتهم خديجة....تحمل رضيعها بين يديها...أخذته من يدي أمه...وأسكنته صدرها...وعيناها تفيض دمعا...وحبا...وشوقا...
_لا تبكي...سيرزقك الله ولو بعد حين...فقط توكلي عليه
_ونعم بالله
أجابت حماتها وهي تضع واجب الضيافة :
_من أين للأرض الجدباء بالأمومة...إنها عاقر..
مزق كلامها فؤادها المكلوم...وأجج أنينها المكتوم...وعبث بجرحها الذي أبى أن يندمل...فركضت إلى غرفتها وقد علا بكاؤها.
رمت بنفسها على السرير...تنعى حظها...حتى غلبها النوم.
ورأت فيما يرى النائم حمامة بيضاء تحلق فوق رأسها بشكل دائري... انهت الحمامة ثلاث حلقات...ثم حطت على صدرها...وفردت جناحيها حتى غمرتها بنور أبيض بهي...
أفاقت من نومها...والسكينة تملأ كيانها...وكأن ذلك الحلم كان بردا لكل آلامها.
توضأت...وصلت ركعتين أطالت فيهما السجود...سجود كان بين دعاء ورجاء وحمد.
لملمت نفسها وخرجت لتعد العشاء فقد اقترب موعد رجوع سليمان.
وعند عتبة الباب أغمي عليها...أفاقت لتجد نفسها في المستشفى...زوجها على يمينها...وحماتها عند أسفل قدميها...ترمقها بشرر من نار.
دخل الطبيب:
_دكتور...مابها؟؟؟؟
_خيرا إن شاء الله...ننتظر نتيجة التحاليل...ستوافيني بها الممرضة بعد حين.
_أرض جافة متحجرة...ولعل القادم أمراض وأدوية ومصاريف علاج لا قبل لك بها...قلت لك ألف مرة طلقها...
_أمي....أرجوك
قاطع حديثهما دخول الممرضة:
_دكتور...لقد ظهرت نتيجة التحاليل...السيدة حامل في شهرها الثاني......
بقلمي فدوى الحريزي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق