الآخر
....
دمرت جدار الصبح الباسم هدير تلك الصرخات المدوية ، قذائف من العويل المدبب تخترق أجزائي ، تململت في مضجعي محاولا إدراك مايدور حولي ، رأسي تكاد تنفجر صداعا ، أحسست بخدر يسري في جسدي ، أسراب من النمل قد استوطنت أجزائي واستولت على أهم المواقع الحسية في جسدي ، والتي استسلمت بدورها ورفعت رايات الخضوع لهذا الغازي الشرس ، قاومت كثيرا حتى استفيق ، دلكت عيناي بقوة كي أستبين مايدور حولي دون جدوى ، الصراخ مايزال يصك أذناي ، أسمع من يناديني كي أنهض ، أكاد أميز تلك الأصوات ، هي نفس الأصوات التي سمعتها حين كنت استقل تروللي المرضى المتجه بي مسرعا إلى غرفة العمليات عقب الحادث المروع الذي تعرضت له سلفا ، لم يكن من بين تلك الأصوات المقربة الي صوت أبي الحبيب ، قدر من الراحة النفسية سرت في عروقي يومها ، أن أبي توفى قبل ذلك الحادث بعدة أشهر ، فقد كانت علاقة أبي بي وحبه الشديد لي ، كان سيسبب له ألما عظيما ، دعوت الله كثيرا ألا أراه يوما بائسا حزينا ، أحسست بيد تعبث بي منادية أياي ، في تلك اللحظة استشعرت بأن كل خلجاتي قد استنفرت من رقدتها وأبصرت كل ماحولي كما لم أبصر من قبل ، تلفت عن يميني وعن يساري فوجدت كل أفراد العائلة يلتفون حول مرقدي ، وبكائهم حار يدمي القلوب ، لم تأخذني الدهشة كثيرا حتى أتبين سبب هذا الحزن الطاغي الذي جمعهم على قلب رجل واحد ، التفت إلى جواري فوجدت أخي راقدا متصلبا ، عيناه جاحظتان إلى السماء ، فاغرا فاهه على مصراعيه كمن يريد أن يسكب له الهواء إلى رئتيه حتى يستطيع التنفس ، تكسو وجهه صفرة الموت ، جسده كلوح من الثلج لا حراك فيه ، انتفضت من رقدتي مهرولا إلى أقصى الغرفة ، توسدت إحدى حوائطها منهارا جالسا إليها أرضا مستندا عليها ، أنه الموت الذي نفر منه دائما ، ولا يتركنا إلا لقدر محتوم .. فررت من فم الموت يوم الحادثة ، فجاء يلاحقني ويلتهم أخي ، لم يبادرني أحدا منهم بأي حديث ، فقد أصبحت من بعد الحادثة غير ذي فائدة ترجى ، فقدت قدماي شللا وتمزقت اوتار صوتي ، سآلت نفسي .. ألم يكن من الأجدى موتي أنا عوضا عن اخي ، أم أن الموت ينتقي من يشاء .
تقدم أحد الأقارب من أخي وأغلق عينيه بكفه ، وأطبق له فمه وأخذ يعصب فكيه إلى رأسه حتى لا ينفرج فاهه مرة أخرى ، ثم استل فراشا فطرحه عليه من أخمص قدميه إلى رأسه ، لم ينقطع الصراخ والعويل ، كان صراخهم كأسواط تلهب جسدي وتفتت قلبي وتشق رأسي ، ليتهم يصمتون ، كانت نظراتي إليهم تستعطفهم صمتا وهم لا يدركون ، حاول أحدهم أن يخرج كل من بالغرفة ويحثهم على الهدوء والسكينة ، وأخذ في الدعاء للميت بالرحمة والمغفرة وهم يرددون خلفه ..
_ اللهم أرحمه وأغفر له
_ آمين
_ اللهم أبدله دارا خير من داره ، وأهلا خير من أهله
_ آمين
_ اللهم نقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
_ آمين
نزلت تلك الكلمات على نفسي بالسكينة والراحة ، فقد هدأ الرجل من روع كل من بالغرفة ، وأخذوا ينسلون من الغرفة الواحد تلو الآخر ، وكانت أمي هي آخر من غادر الغرفة ، حاملة معها بحر دموعها بين كفيها وحسرة بقلبها تكاد تفطره .
هدأ الجمع قليلا فهدأت نفسي ، ودلفت خلفهم خارجا من الغرفة ، كان الكثير من المشيعين قد توافدوا إلى المنزل عقب علمهم بالمصاب الأليم ، وأصطف الكثير من الرجال والنساء تعلو وجوههم علامات الحزن والألم ، وان تباينوا بين باك وناحب وصارخ ، جاء شقيق زوجتي معلما الحضور بأنه قد أنهي كل الإجراءات الخاصة بالدفن من شهادة الوفاة وتصريح الدفن ، وعليهم القيام بسرعة الغسل - إكرام الميت دفنه - نحيا بشهادة ميلاد ، ونموت بشهادة وفاة ، سيظل الإنسان دوما موكول أمره إلى بضع نقاط من مداد ، يكتب له الميلاد فيحيى ويكتب له الوفاة فيموت ، لم يبدي اي من الحاضرين اعتراضا على وجودي أثناء عملية الغسل .
حمل المغسل ومساعده الجثمان برفق ووضعوه على طاولة خشبية مفرغة الواحها ، موضوعة فوق إناء كبير حتى ينساب إليه الماء ، فأخذ المغسل بتعرية الجسد المسجى أمامه ، فبدى الجسد بضا لينا بين يديه ، فأخذ يتكىء على منطقة البطن قليلا حتى يخرج الجسد ما بقى به من أذى ، ثم أخذ في طهارته من الأمام والخلف ، ثم وضئه كمن يعده للصلاة ، ثم قام بسكب الماء على رأسه مدلكا فروة الرأس حتى يتخللها الماء ، ماء فاتر أكاد أحس بملمسه ، ثم قام بغسل شقه الأيمن ، وتلاه بالأيسر ، وهو بين يديه كرضيع بيد امه لا يقدر على شيء _ مابال المتكبرين والجبارين في الأرض _ هل لامس عقلهم يوما هذا المشهد ، تالله لماتوا خجلا وأمضوا حياتهم من المحيى إلى الممات ساجدين لا يلوون على شيء .
أخذ المغسل بعضا من قطع الأقطان الصغيرة ليسد بها منافذ الجسد ، ثم غلفه كله من رأسه إلى قدميه موثوقا ببعض الأربطة _ هل يستطيع الإنسان الفكاك من قدره المحتوم .. أين المفر ؟.
خرج المغسل يخبرهم أن الأمانة أصبحت جاهزة ، سقطت عنه كل الألقاب والأسماء ، لم يبقى من ألقابه الا بعض التعبيرات التى لا تحمل شيئا من من شخصيته ، وأصبح كلمة جوفاء لا حياة فيها _ الميت الجثة الأمانة _ سقط اسمه سقط مركزه سقطت حياته .
أسمع نفير سيارة تكريم الموتى تخترق الجمع ، تكاثرت الأيدي إلى الجثمان ليحملوه إلى العربة ، واضعيه بصندوقه الخشبي ، تراهم وهم يتكالبون على حمله كمن يريد أن يتخلص من عبىء ثقيل أجهد كاهله لأعوام ، فأراد أن ينفضه عن كاهله ، انطلقت السيارة حاملة الجثمان إلى مستقره الأخير ، وخلفها بعض سيارات المشيعين ، البعض منهم كان مازال على حالة الحزن التي إنتابته ، وبعضهم إنقشعت عنه ملامح الحزن كسحابة صيف مرت بهدوء ، ثم أخذوا يتناقلون بعضا من حياة المتوفي وسيرته الذاتية بالقول السوء ، ولم يربط على أفواههم غير قائل :
_ اذكروا محاسن موتاكم .. !
تنبهوا وأخذ كل منهم في ذكر الله في نفسه ، والدعاء للميت بالرحمة والمغفرة ، دلفت السيارة إلى مدخل المقابر ، فاصطفت الأطياف فوق شواهد القبور جميعها لاستقبال الضيف الوافد ، داعين الله أن يجعله رفيقا سعيدا وان يخفف عنه اول لياليه بصحبتهم ، كان حارس القبور قد أعد العدة لإستقبال الضيف ، ففتح مقبرته وجهز نزله ، وضع المشيعون الصندوق قبالة المدفن وأخذوا في تلاوة بعض آيات الذكر الحكيم والصلاة والسلام على الرسول الكريم ، خاتمين صلاتهم بتلاوة الفاتحة ثم هموا لحمل الجثمان من الصندوق لإيداعه إلى مثواه الأخير .. صاح أحدهم :
_ فلينزل به أهله
فكنت أنا أول النازلين إلى القبر ، رهبة سرت في جسدي عند رؤية جثمان أبي في كفنه لا يظهر منه غير وجهه ، كان جسده لم يزل يحتفظ بتكوينه ، فلم يمضي على وفاته إلا بضع أشهر قليلة ، ربما كانت كفيلة بإضفاء بعض التغيرات على الجسد ، ولكن الله كما يحفظ أجساد الأنبياء ، له حكمته في حفظ بعض أجساد الأولياء والصالحين من عباده ، وفي اعتقادي أن والدي رحمة الله عليه ، كان نقي السريرة لا يحمل قلبه غير الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف ، نزل أبناي وشقيق زوجتي حاملين الجثمان ، وقاموا بوضعه برفق بجوار جثمان أبي ، وقام شقيق زوجتي بفك الأربطة عن الجثمان وكشف الوجه ، انسحب ثلاثتهم خارج المقبرة بعيون تملؤها العبرات وألسنة داعية تغطي عليها حشرجة صوت البكاء ، أدركت عدم جدوى وجودي _ أنا الآخر _ فهممت أن أرتقي درج المدفن للخروج ، في تلك اللحظة أخذ حارس المدافن في وضع الألواح الحجرية على مدخل القبر من أعلى ، إذانا بإنتهاء مهمة الدفن ، فصحت به أعلمه بوجودي بأسفل فلم ينتبه لصوتي ، وتابع عمله ولم يدرك وجودي بداخل القبر ، فازداد صياحي له ولأبنائي ، وعلا صوتي كما لم يعلو من قبل ، ولكن لا أحد منهم انتبه لصراخي ، بدأ القلق ينتابني ، حتى إذا صعدت إلى آخر درج السلم للخروج كانوا قد وضعوا آخر الألواح الحجرية على باب القبر ، وأخذوا بنثر التراب المبلل بالماء عليه ، بدأ صراخي يعلو ويعلو ولا مجيب ، القبر بدى مظلما موحشا ، أحس بضيق في التنفس ، تكاد أنفاسي تتوقف خوفا من مجهول يحيق بي ، ضربات قلبي بدأت تتسارع ، باتت تؤلمني ، يكاد صدري ينفجر ، حشرجت الموت بلغت الحلقوم ، عيون من كل جسدي تنضح عرقا ، ويلي .. ماذا ينتظرني ؟ .. كيف ذهبوا وتركوني وحيدا ؟ .. شريط حياتي يمر أمامي كلمح البصر ، علها تكون نهايتي هنا ، هل هذه هي النهاية ؟ .. لا .. لا ..
صعدت درج القير مرة أخرى ، أخذت في الطرق بكلتا يداي ، مازلت أسمع بعضهم خارج القبر ، لم يذهبوا بعد ، كانوا يرتلون آيات القرآن ، صرخت كثيرا ، صرخت أكثر ، لم ينتبه أحد منهم ، هل صموا أم أصبحوا موتى لا يسمعون ، أدركت أنه لا طائل لكل ما أفعل ، انهارت قواي ، أحسست بأن كل جسدي معصوب بالأربطة ، انفجرت بالبكاء ، تلك إذا نهايتي ، عفوا يا قدري ، هل أخطأت في الميعاد ، أم أخطأت أنا في السعي إليك ؟ .. هزني صوت أبي يناديني :
_ يابني .. لم تفعل كل هذا .. ألا تعلم أن هذا هو مصيرنا جميعا ؟
نظرت تجاهه فوجدته قد جلس إلى مكانه بشقه الأعلى ممددا قدماه في مكانهما لم يتحركا ، ومن بين ذهولي وحيرتي أجبته :
_ نعم أعلم أن هذا مصيرنا جميعا عند الموت .. ولكني مازلت حيا .
ابتسم والدي بنفس راضية ، تلك الإبتسامة النضرة التي اعتدت عليها وأشار إلي قائلا :
_ يا بني انت مازلت تحيا داخلك فقط .. تعالى إلى جواري وأدخل جسدك ، وأستعد لمن ياتيك ضيفا .
قلت رافضا :
_ لا .. لا .. أنا مازلت حيا .. وأي ضيف ذاك الذي انتظره ؟
قال والإبتسامة لم تفارق وجهه بعد :
_ يا بني سيأتيك ضيوف الرحمن ، وعليك بالهدوء والسكينة والاستعداد لهم .
قلت والتوتر والخوف يملؤني :
_ يا أبي أخي من مات .. ولست أنا .. فلما يأتياني ؟
_ يابني .. انت وحيدي وحبة قلبي ولا إخوة لك .. أنظر إلى من يرقد بجواري .. !!
بتردد يملؤه الخوف ، نظرت إلى الجسد المسجى بجوار أبي ، أمعنت النظر ، أقتربت أكثر فأكثر ، ظلمة القبر الحالكة قد إنقشعت ، أضيء القبر لا أعلم من أين ، تبينت ملامح الراقد ، نعم أنه .. أنه أنا .. ارتعدت قدماي ، تلاحقت أنفاسي ، أحسست أنني بمدخل قبو طويل لا نهاية له ، تسكنه الظلمة ، تملؤه الخفافيش ، ونعيق البوم اللحن المفضل به ، لعن الله شياطين الجن التي تتخبطني ، أستسلمت لقدري ، ودون أن ادري لحركتي ، وجدتني مساقا ، أغوص في هذا الجسد الميت وأستقر .
.......
تمت
المهاجر
( د. حسين الرفاعي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق