المُوسِيقىٰ
★ * الوترُ الثامِنُ * ★
إنْ أردتَ إيهٍ أيُّها الإنسَانُ أنْ ترىٰ نفسَك في العراءِ وأنت عارِيًا عن كلِّ ظاهرِ زيفٍ ليسَ في مرآةِ ذاتِك وحسب وإنّمَا الحرِيُّ كذلك بين يديكَ على الحقيقةِ دون إكتفاءٍ بٱنعِكاسٍ أنْ تُبْصِرَ كُلّكَ لظهُورٍ أكيدٍ فوق لفائِفِ قشرٍ وأفياضِ لُبَّابٍ، أمامك في مَسَاحَةِ الحقِيقةِ التي لا مورة دُجنةٍ عليهَا ولا أيِّ من سَدفةِ سَوادٍ، حيث أنت في مركزِالمحيطِ النّورَانِيِّ مدركًا حقانِيَّة ٱسمكَ الأعظم عن خِداعِ مُعيَّنٍ ومُتيقظا من حلمِك على حقيقةِ مَا بين يديك من معلومٍ دون أدنىٰ غفوةٍ على وِسادةِ متاهاتِ الضَّبابِ وحالِكِ القتامِ، فمَا عليك إلَّا بعمقِ إدراكك السَّمْعِيِّ بواعيةٍ نوراءٍ أنْ تفيضُ بالمَحَبَّةِ التي يُغذيهَا الصِّدقُ، كذا أنْ تتوغلَ بأجْنِحةِ ضياءِ التَّأمُّلِ لٍكلَّ ما تبدىٰ لك من حقيقةٍ أو خيتعُورٍ ومن واضِحٍ أو طلسمٍ مُصغيًا لِسمفونِيَّتك المُنبعثة من جوَّانِيَّتِك ومعانقا أثمارَ الجَوقاتِ التي تحيطكَ بمُرسلات بديع ألحان المُوسِيقات التي تجذبُ الأفكار كما النَّحلُ إلى الزُّهُورِ والفراشاتُ للنّور، ثمَّ ٱنظر إذا ما تجلّت النفسُ على النُّورِ فما من بعد من إخفاءٍ أو أيٍّ من ثبُور.
ألآ الحريُّ كُلٌّ ليُحاوِل أنْ يمضِي قدمًا بلا قُيُودٍ لحوز جواهر حواسِهِ البَاطنِيَّة لأتمّ الكمَالاتِ، وما تلكُم إِلَّا محاولات لبلوغ سَامِي المقامِ، ولكنها على الدَّربِ كذا تُحدث عواطفا وأفكارًا كشمُوسٍ تتوالدُ في دامسِ الظَّلمةِ لتشيد مجرَّةً مُضِيئة تنبسط على بِساطِ أخيلةٍ وخيالٍ، نُجُومٌ تنشرُ في كواكبِهَا السَّيارةِ بَهَاءَاتُ الضِّيَاءِ وتذيعُ في الواعيةِ أخبارَ مَا كانت تجهلهُ العاقلةُ من عظيمِ أسرارِ المَعارفِ، وأنَّهَا مَضْوَاء نحو سبرِ معرفةِ الكُلِيَّةِ على طرِيقِ الرِّحلةِ كمَا الظَّامئُ الذي ينقبُ الأرْضَ للمَاءِ وهُوَ يَطلبهُ حثِيثاً فإذا مَا ترسلَ المَاءُ قدَّامهُ معيناً سلسبيلاً من صَفاءِ ينبُوعٍ رِواءٍ ينهلهُ للُهْبَةِ العطشِ كان لهُ ذلكُم أوَّلُ حقيقة الٱرْتِقاءِ من نُورِ حقِّ المَعرفةِ المُنَّزهِ عن ظلماتِ أيٍّ من تعصبٍ وخداع، إنَّ لفِي هذا جمالُ التبدُّلِ نحو كلِّ بَهْجَةِ سُمُوٍّ لقطف أثمار كلِّ حقٍّ لكَامِلٍ مُبين لنعمةِ ديمُومةِ الثبات على سلم التوسع في العلياءِ.
فٱنظروا إنَّ لكُمْ في سَاعةٍ وَاحدةٍ وصوت النّاي الشَّجِي ينتشرُ في حواسِكُمْ حين التبحُّرِ ونفحاتُ نسماتِهِ العذبَة في الرَّوعِ مَا يختزلُ ساعاتٍ طوالٍ مِمَّا كنتُم من نبضِ الزّمنِ على ديدنِ العادةِ ترصدُون، قد تسرِفُون وقتا طويلا كي تدركوها مَا لمْ يَحدوها وِئام إيقاعاتِ المُوسيقىٰ لجَاذِبَة تطوي إتيان مأتاة الزمن من مدىٰ بعيد لحُضُور أوان، ومَا يدركُهَا إلّا الذين بقلوبٍ مخلصةٍ على أهدابِهِمْ تتهادىٰ أنغامُها وتمورُ ألحانُهَا في صُدُرِهِمْ نشوة لطائِفِ أنسامٍ صنو تهفهُفِ الرَّيْحان لناهِضِ مشام، كذلك ٱلتقاط السِّرّ من ينبوعِهِ لا متقطعًا في زحامِ فوضَىٰ ضجِيجِ حطامِ التضليلِ الذي يَصمُّ الآذان عن سُمُوِّ النّبَاهَةِ ذلكُمُ الطَّوِيُّ الذي لا يحوزهُ إلّا صَادقُ السَّمعِ وحيُّ الفُؤادِ، كذا لا يدرك لبّ ساعة الزَّمنِ الذي هُو مُتهالك في القشرِيَّة التي تجرفُ كثيرًا من النَّاسِ كغثاءِ السَّيلِ لٱضْمِحلالٍ وتعلقهُم على الظَّاهِرِ ما لهُم حظاً من جوهرٍ ثمِينٍ، وكذا يدركُها عن أغطيةٍ وتمويهٍ الذي يعانقُ الجوهرَ الإِنسِيَّ لحيث هُو في كائِنِهِ الأسمَىٰ دائمُ الصَّحو لا لسُباتٍ على منحدرِ الفناءِ، والحيَاةُ من بين أضلعِهِ غير مُنسابةٍ كمَاءٍ صُبَّ في غربالٍ هدرًا مهدورًا وإنَّما في ٱتساعِ ٱستنشاقٍ لٱحتِواء ما تدلىٰ من ثِمارٍ على عسالِيجِ مداياتٍ تغمست جُذُورُها الٱرتِواءَ من حوضِ القطرِ الذي حواليها مِمَّا أحتُجِزَ لأنفاسِ شجرتها من رواءٍ لوافِر حياةٍ، إنَّ لكُم يا ملأ التجلّي في كلِّ ساعةٍ حقيقة مديد حياة.
علائقٌ تتبيَّغهُمْ على مختلفِ مَرَايَا بين فسادٍ وصلاحٍ وتتنازع أرواحَهُم لمزقٍ هزهزةُ أقطابٍ، أالذي هُو مائِرٌ في وَعثاءِ الختلِ مُهلكا لوادٍ سحيقٍ أمِ الذي في إجْمَامَةِ علياءِ الرَّابيَة وفي النّورِ يحيا بحقِّ نعماءِ الاِتِّزان.
إنْ أردتم يا إخوةَ ٱلإِنْسِيَّةِ أنْ تجتمعُوا وأحباؤكُمْ أولئك المُقرَّبُون على مائِدةِ المَسرَّةِ فهلْ مِن مثلِ المُوسِيقا حواليكُم تظلِلَّكُمْ بأفراحِ الحيَاةِ وهناءةِ الوصَالِ وتعضدكُم لجَلِيِّ أبلجِ النظر، ألآ لنْ تجدُوا جمالاً خيرًا منها وأكثرَ إشراقٍ تضمّكُمْ كمَا العروةُ الوثقىٰ التي لا نكيث عليهَا ولا هدَّامة لنقضِ تماسك الٱرتِبَاطِ لِشِقاق ٱنفِصالٍ، فٱجعلوها في شرابِ كُؤُوسِكُمْ كمَاءِ الوردِ وكذا في طعامِكُم كأشهَىٰ البهارات، ولا ينسىٰ أحدكُم ومن أعماقِ لُبِّهِ أنْ تتوالد وحروف كلماتِهِ بأجملِ ناطقةِ نطقٍ صاغيًا لهَا بمرهفِ سمعِهِ قبل أنْ يَبثها بسِحرِ مَليحِ ألفاظٍ في مَسَامِعِ الآخرين، ولتكن على دسِيْعةِ الٱجتِمَاعِ لكُمُ الألفة التي تنمي الوِداد والإخلاص والحُبُور والسَّلام.
إنَّ للكلامِ مفهومًا ومدلولا حين الإدراك على معنىٰ كلّ حرفٍ إنْ إنفرد أو إتَّصلَ الحريُّ يُترجم لسَامِي فكرٍ لغاية التّنوير على كلِّ دربٍ ومُنشعبٍ لمَاهِيَّهِ كُلِّ حقيقةٍ وحَقٍّ بِواعيةٍ نوراءٍ وجَرِيئةِ فؤادٍ، والحرِيُّ يجدُّ الفطِينُ سُلَّمَ الصُّعُودِ لجَوهَرِ سِرّهِ ولو أحاقت بهِ أكاذيبُ الٱختِلاقِ بكثيفِ دوامِسِ الظَّلامِ، ولا يصيران الكَلِمُ والإدراكُ على كلِّ أمرٍ بجناحِين لعليّ فضَاءٍ أو ككفتي القِسْطاس لكامل التّوازن بحيث كلٍّ منهما يُعطي من منظورِهِ للآخرِ أبلج الحقِّ إلَّا حين تنتشر وفي أنساغِ كليهمَا مُوسِيقىٰ سامِيَةِ الذاتِ بمَا توحِي من أعاليهَا من أثامنِ كنوزِ الإِنسان، فيصير لكُم آنذاك يَا أبناءَ الحياةِ إدراكَ مَا لا يُدرك بتناغمٍ سِحريٍّ وبٱنتظامِ ترابطٍ يُفضِي لكُم نُور البَصيرةِ لفائِق روقةِ المحبَّةِ ولنعمةِ حقانِيَّةِ الحيَاة.
أغطية على مرايا، إِنَّ المُوسِيقىٰ العذبة تكشفُ الأغباشَ لصقلاءٍ عن غبشاءٍ وكذا تكشفُ الغطاءَ عن الصِّدقِ وتطلقهُ لفضَاءِ الحريَّةِ والجمال.
الوتر الثامن من كتاب الموسيقى̍ لمؤلفه :
المهندس أبو أكبر فتحي الخريشا
( آدم )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق