«🌖» خواطر طبية -الهلال(1)- «🌔»
بقلمي : د/علوي القاضي.
... كنت سأموت جوعا ، ففي هذا اليوم لم أتناول فطوري قبل سفري ، ولما كنت بطبعي لاأحبذ المشويات في الإفطار ، فقد توجهت إلى مطعم الفول والفلافل بشعاراته المتعارف عليها (إن خلص الفول أنا مش مسؤول ، وإن خلصت الطعمية معنديش مسؤولية) فالفول والفلافل حبي الأول ، والذي إن مر يوم من غير رؤياه ماينحسبش من عمري ، والذي أشعر تجاهه بأسف ودهشة لكونه لم يغزو العالم بعد ، ورغم ذلك نما إلى علمي أن بعض المصريين بالخارج قد أنشأوا مطاعم للفول والفلافل في دول المهجر
... هناك جهز لي الطعمجي ثلاثة أطباق من الفلافل والطرشي والفول ، حملته متلمظًا إلى فمي من شدة الجوع ، لأكتشف أنه ذو رائحة (زنخة) وليس له (طعم) وذو (لون) داكن وكريه ، لأنه مضاف إليه بقية خبز جاف وبقية الزيت المستعمل برائحته المميزة ولونه الداكن الذي يذكرك بزيت تشحيم السيارات ، أصابتني الحيرة لتفسير هذا السلوك ، والذي إعتبرته طمعا وجشعا في زيادة الربح ، كم يبلغ هامش الربح في طبق الفول هذا ؟! بالتأكيد هو لايقل عن 80% وبالتالي حصل البائع على أربعين قرشا من الخمسين قرشًا التي هي ثٌمْن الثمن الإجمالي ، فماذا يريد ؟! ولماذا يجب أن يغش الفول بخلطه ببقايا الخبز الجاف وإضافة الزيت المستعمل ؟! لماذا لايقدم لي سلعة جيدة ويكتفي بحقه فقط ؟! ، قلت للرجل غاضبًا أنني لن أتعامل معه مرة أخرى ، فهز رأسه في مزيج من الإعتذار الساخر واللامبالاة ، وكانت فلسفته حينئذ ، ماذا يخسر لو فقد زبونًا ، وماذا يكسب إذا إحتفظ به ؟! ، فالمهم بالنسبة له أنه أخذ مني هذه المرة وانتهى الأمر ، وغدًا سيأتي غيري ، هكذا تحول الإيمان بالرزق إلى مبرر للخداع بلا توقف !
... الحقيقة أن فلسفة هذا الموقف تنطبق على كل شيء في حياتنا بدءًا بالفول وانتهاءا بسيارة فاخرة أو فيلا في كومباوند
... ولذلك وبالرغم أنني طبيب ، فأنا لا أضع علامة (الهلال) على زجاج سيارتي ، لأسباب واضحة ، إن هذا (الهلال) هو علامة وتصريح لإستحلال دمي ومالي لدى أي ميكانيكي أو تاجر أو بائع ، وكم سألني هذا الصنايعي أو ذاك البائع عن مهنتي فأجيبه أنني (مدرس) أو (مندوب مبيعات) أو (موظف) بلهجة عابرة
... هذا (الهلال) يوشك أن يكون إعلانًا يقول لهؤلاء ، (أنني أحمق فاخدعوني)
... فهؤلاء عندما يتعاملون مع طبيب ، فهم يتكلفون ذلك الإحترام الممزوج بالسخرية ، وينادونه دائما يا (دوك) ألف مرة في الساعة ، وهم لايكفون عن سرقته ، فالعطل الذي يدفع سائق التاكسي ثلاثون جنيها ثمنًا لإصلاحه ، يطالبونه بثلاثمائة من أجله ، فشعارهم ونظرتهم للطبيب أن (هذا رجل ثري ، رزق حلال أرسله الله لنا ، لقد خُلق ليُخدع ، فإن لم نخدعه فمن نخدع إذن ؟!)
... أنا لا أتعامل هكذا مع المرضي في عيادتي ، وبالتالي لا أعتقد أنني خدعت مريض بأي شكل من الأشكال ، ومعظم من أعرفهم من الأطباء الزملاء لايفعلون ذلك ، لكن كل واحد من الحرفيين أو التجار لديه ذخيرة كاملة من القصص عن الأطباء النصابين والإستغلاليين ، حتى أطلقوا عليهم لفظ (جزارين) ، وقصصهم الوهمية أحيانا والمبالغ فيها أحيانا أخرى جاهزة ، مثلا عن (الحاجة) التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة وبرغم هذا أصر الطبيب على أن يدفعوا خمسين ألف من الجنيهات مقدمًا قبل أن يتم دخولها العناية الفائقة وفحصها ، أعرف أن هذه القصص من الممكن أن تحدث فنحن لسنا في المدينة الفاضلة ، لكن هذا ليس مبررًا لتعميمها والمبالغة في أحداثها ، وليس مبررًا للإنتقام مني أنا بالذات ، أو من أي طبيب يطلب عونهم ، أكيد تصرف هؤلاء فيه غباء لاشك فيه ، لأنك لن تطرق بابهم ثانية ، ولأنهم لايعنيهم في شيء أن تعود أو تذهب للجحيم ، لقد حصلوا على قطعة منك وفروا بها ، وفيما عدا هذا هم مؤمنون بالرزق وبأن هناك مغفلاً آخر سوف يأتي غدًا وقد يكون طبيبا أو مهندسا أو مديرا لبنك ، والغريب أنهم يعتبرون أنفسهم غير مخطئين على الإطلاق
... وإلى لقاء في الجزء الثاني إن قدر لنا ذلك وقدرت لنا الحياة
... تحياتي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق