حدث في صعيد مصر
قصة قصيرة مكتملة الشروط و عناصر القصة القصيرة
بقلم د محمد سليط
في قلب صعيد مصر، حيث تتراقص أشعة الشمس الذهبية على حقول قصب السكر المترامية، وتقف الجبال الشاهقة كحراس صامتين، عُرف الرجال بشجاعتهم التي تضاهي قمم الجبال وكرمهم الذي يوازي اتساع النيل. لكن، بين هذه الصفات النبيلة، كان هناك خيط رفيع يحمل في طياته حكايات الثأر التي لا تنتهي، وتصطبغ بها الأجيال.
في قرية (الغروب)، عاش الشيخ (حمدان)، رجلٌ في خريف العمر، لكنه كان يحمل في عينيه بريق الشجاعة الذي ورثه عن أجداده، وفي يده سخاء لم يعرف حدودًا. كان مجلسه لا يهدأ من الضيوف، ولا تخلو مائدته من الطعام والشراب، حتى في أشد الأيام شحًا. كان لـ (حمدان) ولد وحيد اسمه (ياسين)، شابٌ يافع قوي البنية، ورث عن أبيه وسامته وقوة شخصيته، لكنه كان يميل إلى الهدوء والتأمل أكثر من صخب المجالس.
على الضفة الأخرى من النيل، في قرية (الشروق)، كان يعيش (منصور)، رجلٌ في مثل عمر (حمدان)، لكنه كان يحمل في قلبه جمرًا لا ينطفئ. قبل سنوات عديدة، حدثت مشاجرة بين شباب القريتين، وراح ضحيتها أخ (منصور) الأصغر. ومنذ ذلك الحين، أقسم (منصور) على الثأر، وتحولت حياته إلى بحث دائم عن لحظة مناسبة للانتقام.
لم يكن (حمدان) يعلم أن قدره سيتشابك مع (منصور) بهذا الشكل. ففي إحدى الليالي، بينما كان (ياسين) عائدًا من الحقل، اعترضه بعض اللصوص على الطريق الصحراوي. كان (ياسين) وحيدًا، لكن شجاعته لم تتزعزع. قاتلهم ببسالة، وأصاب أحدهم إصابة بالغة. ولدهشة (ياسين)، لم يكن اللص سوى ابن أخ (منصور، عثمان).
علم (منصور) بما حدث لابن أخيه، فغضب غضبًا شديدًا، واشتعلت نار الثأر في قلبه من جديد. هذه المرة، لم يكن الأمر مجرد حادث عابر، بل كان (ياسين، ابن حمدان)، هو المتسبب. عزم (منصور) على الانتقام، وأرسل رسالة إلى (حمدان) يخيره فيها بين تسليم ابنه أو الحرب.
وصلت الرسالة إلى (حمدان)، ووقع الخبر عليه كالصاعقة. كان يعلم أن (منصور) رجل لا يتهاون في الثأر، وأن الحرب ستكون مدمرة لكلا القريتين. اجتمع (حمدان) مع كبار القرية، وتناقشوا طويلاً. أشار البعض بتسليم (ياسين) حقنًا للدماء، بينما أصر آخرون على حماية ابنهم والوقوف معه.
نظر (حمدان إلى ياسين) الذي كان صامتًا، يتابع النقاش بعينين حزينتين. فجأة، نهض (ياسين) وقال بصوتٍ هادئ وثابت: "يا أبي، لن أدع قريتنا تتجرع مرارة الحرب بسببي. سأذهب إلى منصور وأواجهه.
ارتجف قلب (حمدان) من الخوف على ابنه، لكنه رأى في عينيه نفس الشجاعة التي لطالما عرفها في نفسه. قال (حمدان) لابنه: "يا بني، لن تذهب وحدك. سأذهب معك، وليرى (منصور) أننا أهل كرم وشجاعة، حتى في وجه الثأر.
في صباح اليوم التالي، انطلق (حمدان وياسين) نحو قرية (الشروق). كان المنظر مهيبًا، الأب وابنه يسيران بكرامة وثبات نحو مصير مجهول. عندما وصلا إلى ديوان (منصور)، وجداه جالسًا محاطًا برجاله، والوجوه عابسة ومليئة بالغضب.
تقدم (حمدان) بخطوات ثابتة، وقال بصوتٍ جهوري يحمل في طياته هيبة وشجاعة: يا منصور، جئتك وابني، لا لنتوسل إليك، بل لنواجه قدرنا. ابني لم يتعمد الأذى، وقد دافع عن نفسه. ونحن أهل كرم، جئناك لنقدم لك ما تراه يرضيك، حتى لو كان حياتنا.
توقف (حمدان) عن الكلام، ومد يده إلى (منصور) تحمل كيسًا من الذهب، وقال: "هذا فدية لابن أخيك، ولتكن شاهدًا على كرمنا، فدم ابن أخي بدم ابنك. وإن لم يكفيك، فخذ ابني، فوالله لن أتركه يواجه الموت وحده.
صمت الجميع في الديوان. لم يتوقع أحد هذا الموقف. شجاعة (حمدان) وكرمه في آن واحد، في وجه رغبة الثأر المشتعلة، هزت قلوب الحاضرين. نظر (منصور) إلى (حمدان) بعينين متسعتين، ثم إلى (ياسين) الذي كان يقف شامخًا لا تهتز له شعرة.
تذكر (منصور) كلمات أبيه الذي طالما نصحه بترك الثأر، وأن الكرم والشجاعة هما ما يبقى للرجل. للحظة، رأى (منصور) في (حمدان وياسين) انعكاسًا لما كان يتمنى أن يكون عليه. كان الثأر قد أفقده الكثير، وقد أدرك أن دوره في دائرة الانتقام لن يؤدي إلا إلى المزيد من الدمار.
مد (منصور) يده ببطء، وتناول كيس الذهب، ثم نظر إلى (حمدان) وقال بصوت خافت: يا حمدان، لقد هززت قلبي بكرمك وشجاعتك. لقد علمتني اليوم درسًا لن أنساه. لقد كفاني ما فعلته، وليشهد الله أني قد عفوت عن ابنك، ولن يكون هناك ثأر بيننا بعد اليوم.
عم الصمت أرجاء الديوان، ثم تعالت أصوات التهليل والتكبير. تعانق "حمدان و(منصور) عناقًا طويلاً، وكأن سنوات من العداء قد ذابت في لحظة واحدة. وهكذا، انتصر الكرم والشجاعة على نار الثأر، وكتبت صفحة جديدة في تاريخ صعيد مصر، صفحة عنوانها (الوفاق) لا (الانتقام).
بقلم المفكر و القاص العربي
الشاعر والناقد الاردني
د محمد سليط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق