الخميس، 19 يونيو 2025

♕ قصة .. الطريق إلى عين جالوت ♕ بقلم الكاتب : د. محمد سليط

 قصة قصيرة واقعية مكتملة الشروط و عناصر القصة القصيرة 

بقلم المفكر و القاص العربي

الشاعر والناقد الاردني 

د محمد سليط 

الطريق إلى عين جالوت


كانت سماء القاهرة في عام 1260 ميلاديًا مثقلة بهموم شعبٍ أثخنته غارات التتار المتتالية. الخلافات تنهش أركان الدولة المملوكية، والفتن الداخلية تلوح في الأفق كغيوم سوداء تنذر بعاصفة لا تُبقي ولا تذر. في هذا الجو المشحون، تولى السلطان سيف الدين قطز مقاليد الحكم، رجلٌ عرف معنى الشجاعة والإقدام، لكنه أدرك أن النصر على عدوٍ كالتتار لا يتحقق بالبسالة وحدها.


في إحدى ليالي الصيف الحارة، وبينما كانت نجوم الصحراء تتلألأ كعيون ساهرة، جلس السلطان قطز في خلوته بالقصر، يفكر في الخطوات الواجب اتخاذها. كان يعلم أن المماليك البحرية، بزعامة الظاهر بيبرس، يمثلون قوة لا يُستهان بها، ولكن الشقاق بينهم وبين المماليك الصالحية كان عميقًا. استدعى قطز كبار مستشاريه، منهم الشيخ كمال الدين، عالم الدين الجليل الذي كان يتمتع بحكمة بالغة، والأمير حسام الدين، قائد الجند المخضرم الذي عايش حروبًا كثيرة.


قال قطز بصوتٍ خافت لكنه يحمل تصميمًا: "يا كمال الدين، يا حسام الدين، إن عدونا مشترك، وإن تفرقنا ضعف. أريد أن أعيد الوحدة إلى صفوفنا. هل من سبيل لطي صفحات الماضي مع بيبرس ورجاله؟"


أومأ الشيخ كمال الدين برأسه وقال: "يا مولاي السلطان، العفو عند المقدرة سمة القادة العظام. إن قلب بيبرس ورجاله ليس بمعادٍ للدولة، بل لخلافات شخصية. إن فتحت لهم صفحة جديدة، فسيجدون أنفسهم في خندق واحد معنا ضد التتار."


وبالفعل، بعد أيام قليلة، أصدر السلطان قطز عفوًا عامًا عن جميع المماليك الذين اختلف معهم، ودعاهم للعودة إلى صفوف الجيش. كانت هذه الخطوة بمثابة الصدمة للكثيرين، خاصة وأن بيبرس كان يعتبر من ألد خصوم قطز في السابق.


وصل الخبر إلى بيبرس، الذي كان معتزلاً في إحدى القرى النائية. كان بيبرس رجلًا ذا عزيمة قوية، وشجاعة لا تلين، ولكنه كان يخشى الغدر. جلس مع أقرب مستشاريه، الأمير عز الدين، الذي قال له: "يا بيبرس، هل هذه خدعة؟ كيف يثق بنا قطز بعد كل ما حدث؟"


تأمل بيبرس في الأمر مليًا، ثم قال: "قد يكون قطز أدرك أن هذا وقت توحيد الصفوف. إن لم نتوحد، فسنُباد جميعًا على يد التتار. لنذهب ونرى، فالموت في سبيل الله أشرف من العيش في ذل." وهكذا، عاد بيبرس ورجاله إلى القاهرة، واستقبلهم قطز بحفاوة لم تكن متوقعة، مؤكدًا على وحدة الصف وأهمية نسيان الماضي.


لم يكتفِ قطز بإعادة الوحدة، بل شرع في القضاء على الفتن الداخلية التي كانت تهدد بانهيار الجبهة الداخلية. كانت هناك مجموعات صغيرة تحاول بث الشقاق والتحريض ضد الحكم. استدعى قطز الأمير حسام الدين وقال له: "يا حسام الدين، إن الفتنة أشد من القتل. أريد أن تقضي على كل بؤر الفتن، وأن تعيد الأمن إلى ربوع البلاد. لا تتردد في اتخاذ الإجراءات اللازمة، فالوقت يداهمنا."


قام حسام الدين بحملة سريعة وحاسمة، واعتقل قادة الفتنة، وأعاد الاستقرار إلى القاهرة والمدن الكبرى. شعر الناس بالأمان من جديد، وأدركوا أن السلطان قطز جاد في مهمته لإنقاذ البلاد.


وبعد أن استقرت الأوضاع الداخلية، وأصبح الجيش الموحد جاهزًا، خرج قطز بجيشه الجرار إلى عين جالوت، لمواجهة جيش التتار الذي كان يُعرف بقوته وبطشه. في يوم المعركة الفاصلة، عام 1260 ميلاديًا، وقف قطز أمام جيشه، وصرخ فيهم بصوتٍ يملؤه الإيمان: "يا جند الإسلام، يا حماة الديار، إن النصر من عند الله، وإن الله معنا إن كنا معه. تقدموا ولا تخافوا، فإما نصرٌ مؤزر أو شهادة في سبيل الله."


اشتبك الجيشان في معركة ضارية، كانت الدائرة تدور بين كرٍ وفر. في لحظة حاسمة، عندما بدأ التتار يتقدمون، ألقى قطز بخوذته على الأرض وصاح: "وا إسلاماه! وا إسلاماه!"، ودخل المعركة بنفسه، مما أشعل حماس الجنود، الذين اندفعوا كالأسود الضارية. كان بيبرس يقود الميمنة، يقاتل بشراسة وبسالة لا مثيل لها، يذيق التتار مرارة الهزيمة.


انتهت المعركة بانتصار مدوٍ للمسلمين، وهزيمة ساحقة للتتار. كان النصر في عين جالوت بمثابة نقطة تحول في تاريخ العالم الإسلامي، حيث أوقف زحف التتار الذي بدا لا يقهر. عاد قطز وجيشه إلى القاهرة مظفرين، واستُقبلوا استقبال الأبطال.


ولكن، القدر كان يخبئ نهاية مأساوية للسلطان قطز. فبعد عودتهم من عين جالوت، وفي طريق العودة إلى القاهرة، وبينما كان قطز في رحلة صيد برفقة بعض أمراء المماليك، ومن بينهم بيبرس، وقعت الفاجعة. اختلفت الروايات حول تفاصيل الاغتيال، ولكن الأكيد أن السلطان قطز قُتل غدرًا على يد بيبرس وبعض الأمراء المتآمرين.


كانت هذه النهاية المأساوية بمثابة صدمة للجميع، فقد كان قطز بطلًا أنقذ الأمة من خطر عظيم. تولى بيبرس الحكم من بعده، ليصبح الظاهر بيبرس، السلطان الذي حكم مصر بقبضة من حديد، وترك بصمة واضحة في تاريخ الدولة المملوكية. وهكذا، انتهت قصة القائد الذي وحد الصفوف وأنقذ الأمة، ليُكتب اسمه في سجل الخالدين، وإن كانت نهاية حياته قد حُفرت بمرارة الغدر.

إضافة للقصة: لمسة من الشك وتأنيب الضمير


بعد الانتصار الباهر في عين جالوت، وفي طريق العودة الظافرة، لم تكن السعادة هي الشعور الوحيد الذي يسيطر على بيبرس. فبينما كانت صيحات النصر تتردد في الأفق، كان صوته الداخلي يهمس له بمخاوف ومشاعر متضاربة.


في إحدى الليالي، بينما كان الجيش يخيّم تحت ضوء القمر، جلس بيبرس وحيدًا بعيدًا عن صخب احتفالات الجنود. كان يتأمل النجوم المتلألئة، ويتذكر كيف كان قطز، العدو القديم، يتحلى بالشجاعة والعزم خلال المعركة. لقد رأى فيه قائدًا حقيقيًا، لم يتردد لحظة في المخاطرة بنفسه لإنقاذ الأمة.


اقترب منه الأمير عز الدين، الذي لاحظ شروده، وسأله: "ما بك يا بيبرس؟ النصر حليفنا، واليوم يوم فرح!"


تنهد بيبرس وقال: "النصر عظيم يا عز الدين، ولكنني أتذكر الأيام الخوالي. أيام الشقاق والعداوة مع قطز. لقد غفر لي، ووحد صفوفنا، وقادنا إلى هذا الانتصار. هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟"


كانت هذه الكلمات تعكس صراعًا داخليًا حقيقيًا في نفس بيبرس. فمن جهة، كان طموحه للسلطة لا يزال يشتعل، ومن جهة أخرى، كان ضميره يؤنبه على فكرة الغدر بقائدٍ أنقذ البلاد. لقد كان يرى في قطز منافسًا، لكنه في نفس الوقت شعر نحوه بنوع من الاحترام والتقدير الذي لم يكن يتوقعه.


هذا الصراع الداخلي يمكن أن يضيف عمقًا كبيرًا لشخصية بيبرس، ويجعل قرار اغتيال قطز أكثر تعقيدًا وإثارة للتساؤل لدى المتلقي. فهل كان الدافع الأساسي هو الطموح المطلق للسلطة، أم أن هناك عوامل أخرى، مثل الخوف من أن يعود قطز لينهي حكمه في المستقبل، لعبت دورًا في قراره؟


فائدة هذه الإضافة للمتلقي:


فهم أعمق للشخصيات: تظهر هذه الإضافة الجانب الإنساني لبيبرس، حيث لا يُصور كشرير مطلق، بل كشخص يعاني من صراعات داخلية بين طموحه ومبادئه الأخلاقية.


زيادة التشويق: تجعل القصة أكثر إثارة، حيث يتساءل المتلقي عن الدوافع الحقيقية وراء تصرفات بيبرس النهائية.


تقديم رؤية أكثر شمولية للأحداث التاريخية: غالبًا ما تُروى الأحداث التاريخية بشكل مباشر، ولكن هذه الإضافة تسلط الضوء على التعقيدات النفسية التي يمكن أن تؤثر في قرارات القادة.


لمسة من القدر: أحلام لم تكتمل


أضافة بعدًا آخر للقصة، يبرز الحلم الكبير الذي كان يراود قطز، وكيف أن اغتياله لم يقضِ على حياته فقط، بل على رؤية عظيمة كان يحملها لمستقبل الأمة.


في الليالي التي سبقت المعركة الكبرى، وبعد أن استقرت الأمور الداخلية ووحدت الصفوف، كان قطز يقضي ساعات طويلة في التفكير، لا في المعركة القادمة فحسب، بل في ما بعدها. لم يكن قطز مجرد قائد عسكري طموح، بل كان رجل دولة يرى أبعد من النصر الآني.


في إحدى المرات، بينما كان يتحدث مع الشيخ كمال الدين، قال له قطز بحماس: "يا شيخ كمال، إن هذا النصر، بإذن الله، لن يكون مجرد نهاية لزحف التتار. إنه بداية جديدة لأمتنا. أحلم بدولة قوية، موحدة، تعود لها هيبتها وعلمها. أريد أن أرى القاهرة مركزًا للعلم والمعرفة مرة أخرى، وأن تزدهر التجارة، وأن يعيش الناس في أمان ورخاء."


كانت عينا قطز تلمعان وهو يتحدث عن خططه: إعادة بناء ما دمره التتار، دعم العلماء والفقهاء، إقامة العدل بين الناس، وتوحيد البلاد الإسلامية تحت راية واحدة. كانت لديه رؤية شاملة لمستقبل مزدهر، يتجاوز حدود معركة عين جالوت. لقد كان يرى نفسه مهندسًا لنهضة كبرى بعد القضاء على الخطر المغولي.


الشيخ كمال الدين، الذي كان يستمع بانتباه شديد، ابتسم وقال: "يا مولاي، هذه أحلام الأنبياء والقادة العظام. وإن كان الله قد اختارك لتحقيق هذا النصر، فإنه سيعينك على تحقيق هذه الأحلام."


لكن القدر كان له رأي آخر. باغتيال قطز، لم تفقد الأمة قائدًا عظيمًا فحسب، بل فقدت أيضًا تلك الرؤية الطموحة التي كان يحملها. تولى بيبرس الحكم، وهو قائد عسكري فذ، لكن أولوياته كانت تختلف. لقد ركز على تعزيز قوة الدولة العسكرية وتأمين حدودها، وهو ما كان ضروريًا في ذلك الوقت، لكنه لم يتابع بالضرورة نفس المسار الشامل الذي رسمه قطز للنهضة الشاملة.


فائدة هذه الإضافة للمتلقي:


بعد مأساوي للقصة: تزيد هذه الإضافة من الحس المأساوي لموت قطز، حيث لم يكن مجرد فقدان قائد، بل فقدان لأحلام وأهداف أكبر لم تتحقق.


تسليط الضوء على شخصية قطز: تبرز هذه الإضافة الجانب البعيد النظر والطموح لدى قطز، وتظهر أنه لم يكن مجرد محارب، بل كان صاحب رؤية للمستقبل.


إعطاء القصة عمقًا تاريخيًا وفلسفيًا: تدعو المتلقي للتفكير في كيف يمكن لأحداث فردية، كالاغتيالات السياسية، أن تغير مسار الأمم وتوجهاتها الكبرى.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

♕ طقوسُ الإحتضارِ ♕ بقلم الشاعر : مصطفى الحاج حسين

 *** طقوسُ الإحتضارِ *** أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.  تتلبَّدُ اللَّهفةُ يتحجَّرُ الشغفُ يتصلَّبُ الحنانُ  وتنتحرُ الرغبةُ الشوقُ يجتاحُهُ ال...