أمات أبوك
لا تسلني عن فجيعةٍ
تحيكُ خيوطَها في الروحِ
كلَّ مساءٍ،
وفي كلِّ صباحٍ جديدٍ
تنفضُ غبارَها عن قلبي.
لا تسلني عن وجعٍ
يعبُرُ الأزمنةَ،
يتسللُ بينَ الأضلعِ
فيرويها من كأسِ المرارةِ.
أماتَ أبوك؟
نعم.
ماتَ السندُ، الجبلُ،
ذاكَ النبعُ الذي ارتوينا منهُ
حباً لا ينضبُ،
وعطاءً لا ينتهي.
ماتَ الصوتُ الذي كانَ
يُعيدُ للبيتِ دفئهُ،
للروحِ طمأنينتها.
ماتَ الصدرُ الذي إليهِ
كنتُ ألقي بثقلِ همومي،
فيعودُ خفيفاً، كأنَّ لم يكنْ.
أماتَ أبوك؟
كانَ هنا،
ضحكتُهُ ترنُّ في الزوايا،
خطواتُهُ تملأُ الفراغَ،
وجودُهُ يمنحُ الحياةَ معنىً.
الآنَ،
لا شيءَ سوى صدىً خافتٍ
لذكرى حُبلى بالدموعِ،
وصمتٍ يطبقُ على الأنفاسِ.
تُرى،
هل غادرتْ معهُ الألوانُ؟
هل فقدَ العالمُ بريقَهُ
منذُ أنْ أغمضَ عينيهِ؟
أبحثُ عنهُ في كلِّ وجهٍ،
في كلِّ زاويةٍ،
أسمعُ اسمَهُ في همسِ الريحِ،
أرى طيفَهُ في ظلالِ الشجرِ.
كلُّ شيءٍ يذكّرني بهِ،
وكلُّ شيءٍ يصرخُ في وجهي:
"لقد رحلَ".
يا لفداحةِ الكلمةِ!
كلمةٌ واحدةٌ،
قادرةٌ على هدمِ عوالمَ،
وتحويلِ الفرحِ إلى ركامٍ.
أماتَ أبوك؟
ما زالَ حياً فيَّ،
في كلِّ نبضةِ قلبٍ،
في كلِّ نفسٍ أستنشقهُ.
في عروقي يجري دمهُ،
وفي روحي تُزهرُ بذورهُ.
علّمني كيفَ أقفُ،
كيفَ أواجهُ العواصفَ،
كيفَ أُحبُّ الحياةَ،
وكيفَ أمنحُ بلا حدودٍ.
أشعرُ بهِ في دعائي الخفيّ،
في صبري على النوائبِ،
في قوتي التي استمدُّها منهُ.
هو النجمُ الذي يرشدني
في ظلماتِ اليأسِ،
هو الصمتُ الذي يحملُ
ألفَ حكمةٍ وحكمةٍ.
ماتَ الجسدُ،
لكنَّ الروحَ خالدةٌ.
ماتَ الصوتُ،
لكنَّ الصدى باقٍ.
ماتَ الحضورُ،
لكنَّ الأثرَ محفورٌ في الصخرِ.
أماتَ أبوك؟
لا يمكنُ للموتِ
أنْ يطالَ حباً بهذا العمقِ،
لا يمكنُ للغيابِ
أنْ يمحوَ ذكرى بهذا النقاءِ.
فقط،
انتقلتْ ضحكتهُ إلى سمائنا،
ليُصبحَ قمراً يضيءُ عتمتنا،
وانتقلتْ روحهُ إلى النجومِ،
لتُصبحَ كوكباً نهتدي بهِ.
وسأبقى أحملُ اسمَهُ،
وفاءً لروحهِ الطاهرةِ،
وسأُزهرُ الحياةَ التي غرسها فيَّ،
حتى ألقاهُ في ملكوتِ السلامِ.
***********************
بقلم الشاعر والناقد الاردني
د محمد سليط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق